القوس ما بعد بيان الشرطة: استمرار الملاحقة والتضييق
شهدنا في آب من العام الحالي تصعيدًا خطيرًا من جهاز الشّرطة التابع للسلطة الفلسطينيّة يتمثّل في بيان من المتحدّث باسمها يعلن فيه عن منع أنشطة مؤسستنا وملاحقة القائمين عليها، بل ويحرّض المواطنين للإبلاغ عن أي شخص له علاقة بها. تباينت ردّود الفعل ما بين موجة عنف من فئة كبيرة من مجتمعنا مقابل الكثير من الدّعم من قاعدتنا الشعبيّة وأشخاص حريصين على سلامة جميع الفلسطينيين دون استثناء.
امتدّ الجدل والقيل والقال والتغطية الإعلاميّة المكثّفة حولنا وحول بيان المنع على مدار أسبوعين تقريبًا، حتّى برد الجوّ العام وانزاح الضوء عن القوس ونشطائها كأيّ قضيّة رأي عام تنتشر شعبيًا بشكل واسع. لا يشكّل خفوت الموضوع تدريجيًا وغيابه عن النقاش المجتمعي العام -حتّى بين أصدقاء المؤسسة والقريبين منها- سوى ما يظهر على السّطح، إلّا أنّ عواقب بيان الشّرطة وما نتج عنه من سياسات ملاحقة ممنهجة ما زالت مستمرّة حتّى الآن، ويأتي هذا الإيضاح من القوس كشفًا عمّا مررنا -وما زلنا نمرّ- به في الفترة الأخيرة -والذي وصل ذروته في الأسابيع الأخيرة، وتحميلًا للمسؤوليّة للطرف التي يجب أن يحملها.
أوّلًا، مسؤولية الشرطة على التحريض: على الرّغم من ادّعاء جهاز الشّرطة لأكثر من مؤسسة حقوقيّة ولصحافيين تواصلوا معها أنّها سحبت البيان وأنّ عمل مؤسستنا قانونيّ تمامًا، مع وجود وثائق رسميّة توثّق ذلك؛ إلّا أنّها رفضت التصريح بذلك علنًا ما أبقى حالة من الشرعيّة للعنف المجتمعي تجاه أشخاص يعيشون توجّهات جنسيّة وجندريّة مختلفة، وهو ما نعيشه من لحظة البيان بتصاعد ملحوظ لحالات الاعتداء والابتزاز والتهديد في الفضاءات العامّة والحيّز الرقمي، جزء كبير منها كان على يد جهاز الشرطة نفسه. اكتفت الشّرطة بإخفاء البيان عن صفحة المتحدّث باسمها على موقع الفيسبوك وعن موقعها الرّسمي، إلّا أنّها لم تتحمّل مسؤوليّة التحريض الذي قامت به على أرض الواقع، والذي يدفع ثمنه حتّى الآن أشخاص عديدين بسلامتهم وأمنهم الشخصي.
ثانيًا، ملاحقة الأفراد والنشطاء: على الرّغم من احتفاء بعض الفئات الفلسطينيّة ببيان الشّرطة المذكور، إلّا أنّ التفاعل الشعبي والمؤسساتي معه أظهر شرعيّة وقوّة ما لمؤسسة القوس، ولم يبقِ أيّ شكّ حول قانونيّة وصلابة مؤسستنا، كما أنّه -على مستوى آخر- فتح أسئلة سياسيّة أكبر تتعلّق بالسلطة الفلسطينيّة وسيادتها والتزامها بحقوق الإنسان وكرامته. أدّى ذلك إلى تغيّر سياسة الشرطة وبعض أجهزة السلطة الفلسطينيّة من ملاحقة المؤسسة واستهدافها بشكلٍ مباشر إلى ملاحقة نشطاء أو أفراد بعينهم سواء أكانوا من القوس، أو قريبين منها، أو "يُشتبَه" بهم أنّهم على علاقة معها. رصدنا منذ بيان الشّرطة ما يزيد عن عشر حالات استهداف وملاحقة وصلت إلى اعتقالات -أو بالأحرى اختطافات- في الأسابيع الأخيرة، هذا عدا عن الحالات التي قد لا تكون وصلتنا.
من الواضح لنا خطورة هذه الاستراتيجيّة الجديدة التي لا تملك أي أرضيّة قانونيّة أو أخلاقيّة، والتي تعرّض أشخاصًا مختلفين للخطر، منهم من قد يكون بمواقع هشّة اجتماعيًا ومعرّضين للخطر أو حتّى نشيطين سياسيًا. تكون الأسئلة للأشخاص المُلاحَقين أشبه بالتحقيقات العسكريّة وتصل إلى مستويات من العنف والابتزاز؛ من أسئلة حول العلاقة بالقوس، محاولة جرّ الأشخاص للتعاون معهم والوصول لأشخاص آخرين، تهديد بالفضح، إضافة إلى أسئلة مهينة عن حياة الأفراد الخاصّة. ليس لهذه السياسات بطبيعة الحال أيّ مسوّغ قانوني وبالتالي يتمّ استخدام ذرائع ملتوية مثل قانون الجرائم الإلكترونيّة وغيرها من التهم المختلفة.
ثالثًا، التضييق على عمل القوس: لم تكتفِ الأجهزة الرسميّة الفلسطينيّة بملاحقة الأفراد وعدم حمايتهم، بل عززت الحصار والتضييق على القوس بمساءلة مؤسسات مجتمع مدني صديقة تتراوح العلاقة بينها وبين القوس من تلك التي كان لنا أنشطة مشتركة معها إلى أخرى لا يتعدى التعامل معها مستوى بسيط جدًا، حيث شهدنا استدعاء لمؤسسات وسؤالها عن العلاقة معنا بشكل مباشر أو غير مباشر. لا نخفِ أن حالة التضييق هذه أعاقت الكثير من عملنا ودفعت جهات كانت متعاونة معنا في السابق إلى أخذ خطوات إلى الوراء، خصوصا تلك التي وفرت لنا مساحات لعقد لقاءتنا المختلفة. لا نرى في ذلك مجرّد استكمال لسياسات الملاحقة والتضييق على القوس، بل يتعدّى ذلك كونه تقويض للمجتمع المدني الفلسطيني ككلّ ومؤسساته الأهليّة ودورها الطبيعي والمطلوب فيه.
تشير المعطيات السابقة جميعها محاولة الأجهزة الرسمية الفلسطينية بشكل ممنهج وواعي هدم بنية مؤسسة فلسطينية تعمل على مدار سنوات على خلق حوار مع شرائح واسعة من المجتمع الفلسطيني حول قضايا الجنسانية المهمّشة في المجتمع، متماهية بذلك مع الاحتلال الإسرائيلي الذي يعمل على عرقلة مسار تطوّر ونمو مجتمعنا، وهو الأمر الذي يجب الوقوف وقفة جادّة حوله.
تأتي مشاركتنا لكم هذا التوضيح من شعورنا بالمسؤوليّة تجاه أنفسنا وتجاه مجتمعنا، ورؤيتنا لمؤسستنا كجزء لا يتجزّأ من المجتمع الفلسطيني بأفراده ونشطائه وعائلاته ومؤسساته، وبالتالي يخصّ ما نتعرّض له المجتمع ككلّ فهي قضيّته وليست قضيّتنا وحدنا. تعتمد الأجهزة الرسميّة الفلسطينيّة على ورقة "الخوف من الفضيحة" في المسائل التي تتعلق بالجنسانيّة والتي لطالما استخدمتها كأداة للابتزاز -تمامًا كما استعملها الاستعمار الإسرائيلي سابقًا، وبالتالي ليس لنا سوى كسر التعتيم والصمت حول الموضوع، وكشف الجهات التي تمارس العنف وليس العكس.
ندعوا الأشخاص الذين قد يكونوا عرضة للملاحقة والابتزاز والمساءلة عدم التردد بالتواصل معنا وطلب المساعدة، كما نطالب الجهات الفلسطينيّة الرسميّة المختلفة إلى وقف العنف والملاحقة بشكل فوري وندعو المؤسسات غير الرسمية المساهمة في ذلك دون تردد. لا بدّ أننا نأخذ الإجراءات القانونيّة اللازمة هذه الفترة، إلا أننا ندرك جيّدًا أنّ الدعم والحصانة المجتمعيّة هي الأساس في استمرارنا وقوّتنا.