مقالات // كل المقالات // الاغتراب باللغة – ثورات أجندات وتابوهات لغوية

الاغتراب باللغة – ثورات أجندات وتابوهات لغوية

عندما تعبر الكلمة عن اجندة من الأفضل أن نعي الأجندات المختلفة من وراء الكلمات، وعندما تتمحور الأجندة في كلمة من المُحبذ التدقيق بإختيار الكلمات.

منذ قرابة العشر سنوات بدأ الحراك العربي المثلي بالظهور أجتماعيا وسياسيا. حلم، اصوات والقوس، ثلاث جمعيات مثلية عربية بدأت بالعمل بشكل أو بآخر في السنوات الأولى للألفية الثانية، وتلاها فيما بعد ميم، بداية وغيرها. حلم – حماية لبنانية للمثليين والمثليات والثنائيين والثنائيات ومتغيري ومتغيرات النوع الاجتماعي، أصوت – نساء فلسطينيات مثليات والقوس للتعددية الجنسية والجندرية في المجتمع الفلسطيني.
في السنوات الأولى للعمل بحث المثليين العرب عن كلمة بديلة للكلمات “سحاقية”، “لوطي” و “شاذ” حيث تستعمل هذة الكلمات للذم وتم أستحضار كلمة “مثلية” للتعبير عن الهوية الجنسية المثلية باللغة العربية. مع السنوات تم تذويت الكلمة من قبل الأقطاب المختلفة المعارضة والمتضامنة وتحولت كلمة “مثلية” الى جزء من اللغة يتماهى معها المثليين والمثليات وتفسح للنقاش مساحة اوسع من المساحة التي حُصِرت بكلمات الذم المختلفة. تثبيت الكلمة “مثلية” لغويا هو إنجاز اجتماعي سياسي وثقافي للحركة المثلية العربية لا بُد ان يُحتفى به، ولكي نفهم قدر هذا الأنجاز يتوجب علينا الوقوف ولو قليلا حول الكلمات المختلفة المستعملة اليوم عالميا ومحليا للتعبير عن هذة الهوية معانيها والأجندات المختلفة التي تعبر عنها.

اكثر الثقافات المهيمنة عامة وفي الخطاب المثلي خاصة هي الثقافة الغربية الأمريكية لذلك لتوضيح الفكرة سأتطرق الى المصطلحات المستخدمة بهذة الثقافة وبعضها يُستعمل محليا بتلقائية وعفوية يومية ومن ثم سأعود الى المصطلحات العربية.

في اللغة الإنجليزية تستعمل كلمات مختلفة للدلالة على المثلية الجنسية وكل من هذة الكلمات تبطن بداخلها اجندات سياسية اجتماعية معلنة او غير معلنة، فكلمة Gay على سبيل المثال ترمز الى المثليين عامة واستعمالها يحظى بنقض من المجموعات النسوية حيث أنها تضم المثليين الرجال والنساء بخانة واحدة الا أن الواقع الأجتماعي الثقافي والأقتصادي لهاتين الفئتين مختلف تماما ومن هنا فان إستعمال كلمة واحدة للتعبير عن هاتين الفئتين المختلفتين ما هو، بمنظور نسوي، الا تعتيم على خصوصية النساء المثليات وإجحاف بحقهن وبحق قضاياهن. من هنا تصر تيارات نسوية على إستعمال كلمة Lesbian ومن خلالها يتم إلقاء الضؤ لغويا اولاً وقبل كل شيئ على الخصوصية النسائية في الوضعية المثلية. بالمقابل، كثيرا ما يتم إستعمال كلمة Homosexuals الا أنها تثير الحساسية لدى رجال ونساء على حد سواء حيث يرى بعضهم انها تشدد على البعد الجنسي للهوية وتحصرها وتحددها بالممارسة الجنسية بينما هي أوسع من ذلك. بالمقابل لهذة الكلمات توجد كلمات أخرى لتعبر عن فئات مختلفة داخل هذة الفئة مثل: Bisexual, trans gender, trans sexual وكلمات أخرى لن اطيل بتفصيلها جميعا.

ارتفع في السنوات العشر الاخيرة بشكل ملحوظ استعمال كلمة Queer، ولم تقتصر الكلمة على هوية انما تطور الخطاب حولها ليتحول الى نظرية فكرية ذات اجندة سياسية اجتماعية من المجدي الوقوف عليها قليلا والتمعن بها.

كلمة “كوير” قد تترجمها بعض القواميس الى “غريب الاطوار” إلا انها في الواقع تخلط بين هذا وبين الجنون فالكوير هو بمثابة المعتوه والأخرق والأبله وقد استعملت هذة الكلمة أصلاً للدلالة على المثليين لشتمهم وإهانتهم. مع الثورة المثلية في المجتمعات الغربية قام المثليون والمثليات على مدار سنوات بإسترداد الكلمات ومن بين الكلمات التي إستردوها وحولوها الى مصدر قوة هي الكوير وتستعمل اليوم للتعبير عن “هوية لا هوية لها”. فيفترض الفكر الكويري والنظرية الكويرية ان الهوية غير ثابتة ويجب الأمتناع عن تحديدها وقولبتها. فاذا كنتَ اليوم ذكرا هذا لا يعني أن لا تكون غدا أنثى وأن كنت اليوم مثليا غدا قد تكون مغايرا أو متحولا أو ثنائيا وغيرهم وربما قد تجمع بين عدة مركبات قد تبدو للوهلة الاولى متناقضة وربما قد تمتنع عن اي تعريف وعن اي هوية. الهوية الكويرية اليوم لا تقتصر على الدلالة على الميول الجنسية انما على انتماءات وهويات سياسية وغيرها ناقضة لمنظومة الهويات المصقولة والمفهومة ضمنا كالهوية القومية أو العرقية أو الدينية وغيرها. لن أطيل بالتنظير الكويري لكن أكتفي بالقول ان ما جاء به فوكو وباتلر فيما بعد ليمحي الهويات ويتعالى عليها جميعا ليدمجها في خليط متجانس ومتساوي وفي حيز لانهائي من المساواة ومن الحرية، تحول الى هوية أخرى كغيرها من الهويات وان كانت جذرية الا انها مساوية لأي هوية أخرى تختزل وتأطر الفرد بهوية فكرية سياسية اجتماعية وثقافية تتماهي والفكر الكويري. لكن الأنكى من هذا هو عملية مصادرة هذة الكلمة من “المعتوهين” و”الخرقاء” و”البلهاء” بواسطة التنظير الجم حولها وتحويلها الى كلمة يتباهى المرفهين بالتماهي معها.

ان كلمة “كوير” من حيث السياق الثقافي التاريخي ما هي الا اقرب الى كلمة “شاذ” باللغة العربية، وفي السنوات الاخيرة تم إستيراد كلمة “كوير” لكن كلمة “شاذ” بقيت في مكانها، فلم يحلو من الثورات غير الثورات المستوردة. بالإضافة الى هذا فأن نشاط المثليين السياسي في حركة المقاطعة أضاف الى سلة المصطلحات المستوردة مصطلح ال pinkwashing وهي كلمة لن تجدوها في القواميس المختلفة، ومحاولة ترجمتها الى اللغة العربية هو تحدي لا يستهان به. في أحسن الحالات ستعرض عليكم القواميس المختلفة ترجمتها ككلمتين منفصلتين وليس كلمة واحدة وان أردنا ترجمتها عنوةً فستكون “غسيل زهري” أو “شطف وردي” وهكذا ستبدو كأضحوكة خفيفة مثيرة للدعابة لا لأي شيئ أخر. طبعا لكي نرد الى الكلمة مكانتها ومعناها الدقيق لا بد ان نستورد معها ملاحقها الثقافية وسياقها التاريخي والسياسي. فاللون الزهري بهيئة مثلث مقلوب، لمن لا يعلم، هو الرمز الذي استعمله النازييون للمثليين الرجال في معسكرات العمل والأبادة النازية، اما للنساء فقد استعمل المثلث الاسود، وقد تحولت هذة الرموز والالوان فيما بعد الى رموز مثلية يتماهى معها المثليون ويفتخرون بها. من هنا فان مصطلح “البينكواشينج” يستعمل للدلالة على طرف يستعمل الحقوق المثلية وموقفه المنفتح ازاء المثليين وقضاياهم بهدف “تبيض وجهه” والتغطية على أمور أخرى قد تكون جرائم بحق الإنسانية كجرائم اسرائيل مثلاً المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني.

من هنا اود العودة الى الكلمات العربية لأطرح تساؤلات لغوية تكمن في طياتها أجندات سياسية أجتماعية وثقافية. اولاً، ان كانت الكلمات “مثلي” و”مثلية” هي فعلا إنجاز لغوي ثقافي يحتفي به المثليين والمثليات في المجتمعات العربية لماذا يتم التنازل عن هذا الإنجاز الغض لصالح إستيراد مصطلحات لغوية خارجة عن السياق التاريخي السياسي والثقافي المحلي للمكان؟! ثانياً، إن كان ولا بد التعبير عن هوية ثورية جذرية (راديكالية) كالهوية الكويرية لماذا لا تُستخدم كلمة “شواذ” لماذا يتم إستيراد كلمة “كوير” المنقحة والنقية والخالية من المذمة بفهومها المحلي، لماذا لا تكون الثورة عربية في عصر كله ثورات عربية؟ لماذا يتم إستيرد ثورات الأخرين مصقولة مهذبة وسوية؟ فإن كانت خُلاصة رسالة الحراك المثلي العربي أن المثلية موجودة بكل ثقافات العالم وبكل مجتمعاته منذ الأزل وأن على كل مجتمع أن يجد طريقه لاستيعاب وإحتواء أفراده وتقبلهم على مجمل هوياتهم، انتمائاتهم ومعتقداتهم فهل يجد المثليون العرب طريقهم الى احتواء مجتمعاتهم واستيعابها لتحتويهم وتستوعبهم بدورها أم يغتربو عنها بلغتهم فتغرب عنهم وجهها؟!

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

نسرين مزاوي باحثة إجتماعية وناشطة نسوية – الناصرة

المقال نشر لأول مره في موقع قديتا

photo
تثبيت الكلمة “مثلية” لغويا هو إنجاز اجتماعي سياسي وثقافي للحركة المثلية العربية لا بُد ان يُحتفى به، ولكي نفهم قدر هذا الأنجاز يتوجب علينا الوقوف ولو قليلا حول الكلمات المختلفة المستعملة اليوم عالميا ومحليا للتعبير عن هذة الهوية