[هذه المادّة جزء من ملفّ خاص ينشره القوس بالتّعاون مع موقع جدليّة. للاطلاع على جميع مواد الملف اضغطواهنا]
(النص أدناه هو الجزء الثاني من المقال. لقراءة الجزء الأول، اضغطوا هنا)
الجسد الفلسطيني:صنع محليّ؟
قد يكون مغرياً للبعض سلخ الحالة الفلسطينيّة عن المشهد المعولم والاستفراد بخاصيّتها الاستعمارية الاستيطانيّة وبميّزاتها التاريخية، فتكون بناها التحتية أو تفاعلاتها مع النظام الرأسمالي مبعثا للملل، وتشوب مقارنتها بنماذج أخرى في العالم الجنوبي شيئا من التكفير، وكأن مسألة الحفاظ على تفرّد القضيّة الفلسطينية أصبحت أهم منها. وبحالنا، الإغراق في الخاصيّة الاستعماريّة وعزلها المصطنع عن حوافزها الاقتصاديّة وعن كونها جزءا من نظام عالميّ يستدعي الهدم الكلّي، يُضبّب الواقع وينأى به أكثر عن بصيرتنا.
لا جدال حول وقوع الجسد الفلسطيني فريسة الكيان الصهيونيّ كونه نظاما يجمع بين مطامع اقتصادية ومساعي استيطانية، إذ لا يكفي افقار الفلسطينيين الممنهج، واستلاب أراضيهم، واستغلالهم كأيدي عاملة رخيصة، فكانت ولا تزال هناك ضرورة لعمليات إبادة، وتهجير، ونهش جسدي ومعنوي مستمر، ليس فقط كأداة إرهابية ضبطية مثل أي نظام قمعي، إنما كشرط استيطاني أساسي. لكن لبنية الاستعمار الرأسمالية تأثيرات جسيمة أيضا على الجسد المستعمر، وبسياقنا على جنسانيته كذلك.
إذا في عالم يسوده نظام رأسماليّ كونيّ التأثير هل من اختلافات جوهرية بين أجساد "الغرب" و"الشرق"؟ وإن وجدت، ما هو مداها؟ هل للجسد المستعمَر رواية ذاتيّة خاصّة؟ ماهي ومن يرويها؟
بداية، علينا التأكيد بأن الرأسمالية لا تتّخذ هيئة متجانسة في توسعيّتها الجغرافية، ولا تتناسخ عبر انبساطها ثقافات متطابقة أو أنسجة اجتماعيّة متماثلة، فكما يشدّد تشيبر فيفك لا يجوز استبدالكونيّة التأثيرالرأسمالي على المجتمعات المستعمرةبالتجانس الثقافي.[22]ما يرغبه رأس المال عندما يتوسّع جغرافيا هو إخضاع آليات الإنتاج الاجتماعي بما يلائمه وظيفيّا لا غير، وهذا وحده كافي أحيانا كثيرة لإحداث تغييرات ملحوظة في أبعادها الاجتماعية والطبقيّة وإن لم تتطابق بالحذافير لتنصهر في قالب واحد معولم.
في العالم الجنوبي، ومع صعود الموجات الاستعماريّة والرأسمالية، خُلِقَت محميّاتٌ اقتصاديّة محاصرة ومهيّئة لامتصاص الاستهلاك وتوفير الموارد وإفراز الأرباح. لم ينته التّاريخ كما يدّعي فوكوياما، بل أخذ يروي انتصارات السلطات البيضاء التي هرولت "لإنقاذ" دول الجنوب المتأخرة والرجعية من "الانتخاب الطبيعي" في العالم المعاصر، وراح يسرد عن مستعمرات أقيمت باسم القيم الأخلاقيّة، والديموقراطية، والتقدميّة العلمانيّة. ما كان ذلك بالواقع إلا إقحاماً ممنهجاً لمشاريع تجارية استعمارية ومأسستها عبر آلة الدولة القوميّة الحديثة. ومع إعادة رسم حدود الجغرافيا المعرفية في السيّاق الاستعماريّ الرأسمالي الحديث، يقترن الإنتاج الكولونيالي بالإنتاج الرّأسمالي الإمبريالي اقترانا بنيويّا، تقوم من خلاله الأنظمة الاستعمارية وال "ما بعد استعماريّة" بضبط اقتصادي محكم لكل من الموارد الطبيعية والبشريّة: الضامن الأساسي والمركزي لصيانتها وإعادة إنتاجها. وفي فلسطين أضعف ذلك الإنتاج المحلّي وقضى بالكامل على أي محاولة لتقرير مصير جمعيّ يتجاوز الحكم الرئاسي الوظيفيّ.
هذه البنية التبعيّة هي أحد الأركان الأساسيّة "لنمط الإنتاج الكولونياليّ" بتعريف مهدي عامل، بمعنى أنه في السياق الاستعماريّ يرتطم نمط الإنتاج بصيرورة تشكّل مأزومة مستمرّة تعود لبنيته الاقتصادية الملجمة بتبعيّة إمبرياليّة.[23] فخاصيّات الاقتصاد الاستعماري بتحويل الفلاحين لعمّال موسميين بالأجرة، وإعاقة البروليتاريا الصناعية، الى جانب غياب طبقة رأسمالية صناعية، ليست بسمات من التحرّر الاقتصادي والإفلات من سطوة الرأسمالية بل هي امتدادات مشوّهة لها، تنقشع بوضوح في الفضاء المستعمًر وتصيغ التحرّكات المجتمعية داخله.
بالفضاء الفلسطيني تحديدا يحبط هذا المدّ الرأسماليّ الكولونياليّ إيقاع التشكل الحداثي داخله ويبطئ، تغيّرات المجتمع الرأسمالي إلا ان هذا لا يعني أنه ينفيها أبدا. وبالتالي، لا يستوقف الجسد الفلسطيني، كجسد مستعمر تأثيرات الرأسمالية الكونية. ولنا بذلك أن نستشفّ بعدين مركزيين يصقلان الجسد الفلسطيني المستعمر جنسيّا وجنسانيّا وهما النمط الأسري والحيّز الرّيفي.
النمط الأسري المستعمَرَ
كما سبق وذكر، تحدّد البنية الأسرية التخوم الجندريّة لأدوار أفرادها، انصاعوا لها أم تمرّدوا عليها، كما وتهندس أدائيات المجتمع الجنسانية وتقوم بعمليّة تنميط سلطويّة على صعيدي الممارسة والأيدلوجيا. بالحيّز الفلسطينيّ، تدّعي الأصوات الناقدة للسلطة الأسريّة وتلك المناصرة لها ادّعاءً مشتركا وهو أن العائلة والعشيرة الفلسطينيّة وحدة متراصّة يتعزّز تماسكها التقليديّ في وجه الاستعمار الحداثيّ. فالاعتقاد السائد يرى بالنمط الأسري الفلسطيني إرثا شعبيّا حيّا ذا جوهر ثقافيّ جامع للطبقات يقابله ضخّ ثقافي مضادّ يتدفّق من صلب السلطة الاستعماريّة الرأسمالية. الّا إن هذه النظرة ليست دقيقة فهي تتعامل مع العائلة كمتحجّر لا يتفاعل إلا وبيئته المحليّة، وتعتبر الأسرة الفلسطينية سدّا منيعا أمام الحداثة والغرب، لا أداة إنتاج اعتمدتها الرّأسماليّة نفسها وأدلجتها عميقا في ذواتنا. ذات الرأسمالية تطلّ الآن من جديد بزيّها الحداثيّ لتهدّد ما ثبّتته من ملاذ أسري وما حسبناه من صنعنا نحن.
ليس هنالك ثمة شكّ أن لعمليّات التذرير المجتمعي التي ينتهجها الاستعمار الصهيونيّ ولسياسات التجريد الماديّة والمعنوية المستهدفة للفلسطينيين وقعاً مباشراً على أجسادهم وفهمهم لها. إن الانكماش العشائريّ والاستفحال الرجولي، نتيجة مباشرة لحالة فقدان ماديّة ومعنوية تعيشها الرجولة المستعمَرة، والتي تجرّد الجسد من استقوائه الذكوريّ (تؤنّثه) في الحيز العام وتستفزّ ما يتبعه من استنفار دفاعيّ يتم تفريغه في الحيّز الخاص، هناك حيث لا من محاسبات ولا من قيود تذكر. وهذا تماما ما يبتغيه الاستعمار في سرّه، فبحال لم يندمج المستعمَرين عبر الأسرلة، من الأفضل أن ينشغلوا بانتماءاتهم الآخذة بالانقسام كانت جغرافية و\أو حزبية و\أو طائفية و\أو عشائرية. وبالنسبة للرجولة الفلسطينية المستفحلة فهي بمعظمها أداء مسرحيّ بالنسبة للكيان الصهيوني; لا يهدّد الاستعمار فتل الشوارب، ولا تربكه العنترة في الشوارع، وبالتأكيد لا يقلقه قتل أو تعنيف النساء الفلسطينيات، بل هو ما يدفع نحوه تعزيزا لشرعيّته السياسية في "تحرير الفلسطينييّن من تخلّفهم العرقيّ".
إلا أنه حتّى مع هذه الانكماشات نحو الدّاخل والتعصّب العشائري الموطّ د من قبل الاستعمار لا تحافظ الأسرة الفلسطينية على شكل ثابت ولا تنفذ من تأثيرات الرأسمالية ونظام العمل المأجور. بالتالي لا يدلّ تمسّك الخطاب المجتمعي بالأسرة بالضرورة على صلابتها بل يكون في الكثير من الأحيان ردّا مدافعا عن ضعضعتها. إنّ تشكل التصدّعات في البنية الأسريّة التي أحدثتها الرأسمالية الحديثة في السياق الاستعماري يعمل ببطئ مقارنة بما نشهده في دول الشمال كما أمريكا، لكنه في صيرورة ظاهرة للعيان تتضّح أكثر بالمدن وأِشباه المدن في فلسطين. ومن هذا التصدّع الأسريّ ترصد لنا الإحصاءات في العقد الأخير وفرة من الدلائل، فشهدت الضفة الغربية وقطاع غزّة انخفاضا في نسب المتزوّجين مصحوبا بارتفاع في نسب الذين لم يسبق لهم دخول مؤسسة الزواج قط، فقد انخفضت نسبة المتزوجين من الرجال عام ١٩٩٥ من ٥٦.٣ إلى ٥٤.٨ عام ٢٠١٠ انخفضت لدى النساء من ٥٩.١ عام ١٩٩٥ إلى ٥٦.٥ عام ٢٠١٠.[24] أما بالنسبة لعدد حالات الطلاق المسجلة في المحاكم الشرعية في الضفة والقطاع (دون رصد حالات الانفصال)، فبلغت ٨١٧٩ في عام ٢٠١٥ و ٧٦٠٣ في عام ٢٠١٤ مقابل ٣٤٤٩ عام ١٩٩٧.[25]وفي أراضي ال٤٨ شهدت نسب الطلاق ارتفاعا نقلها من ٦.٣٪ عام ٢٠٠٢ إلى ٧٪ عام ٢٠١٢ (بحيث أن نسب الطلاق لدى الإسرائيليين تصل ال٩٪).[26]وفي صحراء النقب تحديدا، حيث تعمل آليات إفقار شرسة ومستشرية، كشفت معدلات الولادة الأخيرة عن تراجعا حادا من 8.7 في 2001 حتى 5.3 في 2013. في ذات الفترة، وسط ظروف مادّية نقيضة، ارتفع معدل الولادة الإسرائيلي من 2.5 إلى 3 ولادات.[27]
في ضوء المذكور، يقع الاستعمار في ورطة تضع مطامعه في شيء من التناقض، فيستفيد من تدعيم الانكماش الأيدولوجي العشائري الفلسطينيّ من جهة، ومن جهة أخرى يحثّ على تفكيك الترابط الاجتماعي بما يخدم منفعته الديموغرافيّة، فيقونن منع لمّ الشّمل، ويدفع نحو تخفيض معدلات الولادة . ولربّما أن تكون العقلية الفلسطينية موبوءة في التعصب العائلي وأن تلازمها في ذات الوقت ممارسات فعالة من التفكّك المجتمعيّ هي شهوة أخرى من شهوات المخطّ ط الصهيونيّ.
تماشيا مع كل ذلك، يستمرّ تمظهر الوقع الرأسمالي الحديث في خصخصة الحيّز الخاص الفلسطينيّ وتسليعه. فما يمكن رصده في الطبقات الوسطى بشكل خاص هو أن اجتذاب المرأة الفلسطينيّة للعمل المأجور، كضرورة مادّية وليس كخيار تحرّري، إلى جانب عملها غير المأجور ولّد فجوات إنتاجيّة في الاقتصاد المنزليّ حيث أن التوفيق بين ما يستغرقه العمل المأجور وغير المأجور من وقت وطاقات أصبح استحالة مطلقة. وما إن تتوّلد هذه الفجوات الإنتاجية في يوم المرأة العاملة تهرول الرأسمالية في سلعنتها، فتشرع الشركات في خصخصة الحضانات وخدمات النظافة والطبخ معتمدة على عمالة نسائيّة رخيصة تنتهز بواسطتها فرص متجددة من مراكمة الأموال.
وفي ظل إضعاف السلطة الأسرية في فلسطين وفي الإقليم تتموّه حدود الممنوعات وتُخلق مساحات جديدة، ولو صغيرة، يمكن للجسد بها أن يهجر تعليمات الرجولة والأنوثة الملتزمة. لذا لا يفاجئنا اضطرار شخصيّة قياديّة محافظة كحسن نصرالله لتداول التفكّك الأسريّ علنا والتحذير مما يصدّره الغرب ك"ثقافة المثلية التي تعمل على منع تكوين العائلة". الملفت للانتباه بخطاب نصرالله هو أولا استخدامه غير المتكلّف لزوج الكلمات "العلاقات المثليّة" كمن ينتقيهما بكامل الأريحية من خزينته اللغويّة، وثانيا اختيار توقيت خطابه في منتصف آذار في "يوم المرأة المسلمة" أياما بعد "يوم المرأة العالمي". لسبب ما، جهله أم تفطّ ن اليه، لم يعتبر نصرالله أياً من هذا منطقاً غربياً دخيلاً على طهارة نواياه.
بعيدا عن دواخل حسن نصرالله، هناك، كما هو واضح، انشغال سياسيّ (لحزب الله) بالتفكّك الأسري. وكيف له ألا يكون عندما تشكّل القبليّة أسسا صلبة في بناه الحزبيّة فلا يكون حرصه على التماسك الأسري إلا درءا لزعزعة هيكليّته الحزبيّة ولا سيّما سلطة الأنظمة الداعمة له. لسنا بحاجة للاجتهاد الفكري للمقاربة بين مصطلحات نصرالله وتغطيات النظام الأسديّ الإعلامية إبّان الثّورة السورية عام ٢٠١١، وخير مثال هو أحد الشعارات التي نصت على أنّ "التماسك سر البقاء: الاحتجاجات لم تنجح في تفكيك عائلة الأسد".[28]
كلمة حسن نصرالله، الأمين العام لحزب الله، في مناسبة "يوم المرأة المسلمة" المتزامن مع ذكرى ولادة الزهراء في ١٨ اذار ٢٠١٧.
نهاية، فيما يخص النمط الأسري المستعمر من المهم أن ننظر إلى العوامل الجندريّة والطبقيّة وتأثيراتها المعقّدة على سلوكيّات المأسسة في كل من الزواج والإنجاب، بحيث أنه يمكننا التعميم إلى حدّ ما أن غلاء المعيشة وثقل العمل المأجور يؤخرّان جيل الزوّاج بشكل ملحوظ في صفوف رجال الطبقات العاملة مقابل أبناء الطبقة البرجوازيّة وأصحاب قدرة تمويل الزوّاج في سنّ مبكرّ نسبيّا.[29]في هذه الأيام نكاد لا نرى نفس الإقدام لأبناء الطبقات المفقرة على الزواج حتى منتصف عشرينياتهم إلا إذا حثّت عائلة الزوجة على ذلك وكانت قادرة على الدعم المادي. وهذا أيضا ما لحظناه في انخفاض مستويات الإنجاب الحادّ في آخر عقدين،[30]فالكلفة البشرية والطبقية كافية لتغيّر الأنماط المجتمعية دون وسيط. أمّا في الشقّ النسائي، فتختلف الصورة بعض الشيء، إذ إنه ضمن الارتفاع الكلّي لمعدلات سن الزواج لدى النساء ما انفكّت نساء الطبقة العاملة تتزوّج في سنّ يسبق نساء الطبقات الوسطى والبرجوازية بفرق واضح، وذلك لأسباب عدة لن نخوضها هنا لكن أهمها هو ارتهان نساء الطبقات المفقرة في الاقتصاد المنزلي وتعلّقهن النسبيّ في دخل السلطة الأبوية وبالتّالي تحوّلهن إلى عبء مادّي يُخفّف عند الزواج.
المدينة المفقودة:المشهد الرّيفي الفلسطينيّ
وسط هذا التناقض الصيروريّ بين الأصالة والحداثة أو بتعبير مهدي عامل "بين الأمانة للذات والأمانة للعصر" يعلو شبح المدينة المفقودة ويطوف مضطربا داخل الوجدان الفلسطيني الجمعيّ. فالانعطاف التاريخيّ الذي أحدثه الاستعمار نزع الفلسطينيّ عن بيئته الزمكانيّة وسلب منه وعود المدينة الفلسطينية، وإن كانت متخيّلة. ومن خلال إجهاض المركزيّة التجاريّة للمدينة الفلسطينيّة، ونهشها ديموغرافيّا، وعزلها عن المدن والعواصم المحيطة بها، نتج مشهد عمرانيّ ريفيّ محاصر يتوسّع بتعداده السكّاني مكوّما المزيد من الاسمنت دون أن يبلغ التكوّن الحداثيّ للمدينة. وهو الأمر الذي أنتج عقدة ريفية جمعيّة أصابت المخيّلة الفلسطينيّة فغزتها أحلام تحت عنوان "لو لم تحصل النكبة"، واعتلتها أيقونة حداثية متخيلة ليافا ولحيفا تتبعها أحيانا أمسيات رومانسية على ساحل بيروت.
إن غياب المدينة الحديثة كما في رام الله ونابلس وغزة إلى جانب فقدان السيادة على حيّز المدن المستعمرة كيافا وحيفا وبئر السبع، يلعب دورا مركزيا فيما يتيحه الفضاء من تحرّكات اجتماعية وما يفسحه من مجال ينعتق فيه الجسد عن سلطة الرقابة الريفية. لكن في الاحتدام الحاد بين المدينة المتخيلة والواقع الريفي تنشأ حالة مركّبة يعيشها الفلسطينيّ والفلسطينيّة. ورغم تداعيات الغربة الموجعة في الوعي الفلسطينيّ يتوق الجسد أحيانا للذّوبان في صخب المدينة والاغتراب داخلها. يعود ذلك للاغتراب المعاش بالمدينة ولتجربة الخلاء النفسي الذي يمكن للذات به أن تختبر حدود أدائياتها وتتمرّد عليها أو أن تتقمّص أدوارا جديدة وتطلّ بهيئة مختلفة بعيدا عن مُشاهِد يعرفها وعن تكلفة اجتماعية تتكبّدها. وحتى عندها قد تلازم أجساد الاستثناء حالة من هوس المراقبة فتتسلّح الكثير من الفلسطينيّات مثلا بنظرات متفقّدة تتفحص الحيّز قبل ان تسلّم نفسها له. لكن مع هذا "النعيم الحداثي"، وفي المدن المستعمرة الأكثر حداثة في فلسطين، باللحظة التي تنتقل هذه الأدائية لحالة جمعية مسيّسة تهدّد أركان السلطة الرأسمالية الاستعمارية تهديدا مباشرا، تعود الأجساد فورا إلى خانة الهومو ساكر فيسترجع الاغتراب طعمه المرّ، وتستعيد التكلفة دمويتها.
من هنا، لا يتماثل ظاهر الشيء بماهيّته. وما شعور التفوّق على منظومة الرقابة إلا وهما تنتجه المنظومة بنفسها. يكون المنطق الرقابي وراء الهندسة المعمارية للمدينة الحديثة ووضعيّة الأجساد المستعمرة فيها شديد الاحكام. بمعنى أن تقسيمات الشوارع، والإنارة، والتحريش، وإحداثيات المراكز التجارية، ومراكز الشرطة، وتقسيمات الأحياء الطبقية عرقية كلها، لا تكون منثورة عشوائيا كما في عمل فني ما بعد حداثيّ، بل هي مدروسة ومعتمدة تعزّز ضبط ورقابة وربح السلطة الاستعمارية على ومن الأجساد داخلها. دون تجاهل ذلك، في العالم الرأسمالي اليوم بوسع المدن استقطاب بما يكفي من العمال والطلاب لتتكون، بظل ظروف وقضايا جامعة، حالة غليان شبابيّة تدفع نحو إنتاج ثقافي وسياسيّ أكثر غزارة وانتشارا من ضواحيها. يمكن ملاحظة ذلك بانعكاسات محدودة في المدن وأشباه المدن بفلسطين. وبالنسبة ليتامى "المدينة المحرّرة" في فلسطين، ظلت المدينة ممتحفة مجمّلة في حيّز فوق زمني يجوب طيفها الرّومانسي عبر المسرد الثقافي الفلسطيني حتى يومنا هذا.
تابوت الخاتمة
كثيرة هي الأدبيات الما بعد حداثية التي قدّمت قراءات في الممارسات والهويات الجنسية على طبق ثقافوي يتخذ بنى الثقافة الفوقية انطلاقةً ومصبّا للتحليل، ويكتفي بحركة نقد دائريّة مأسورة في الإفرازات الثقافية للمجتمع بوصفها "المحرّك الأساسي لصراعات القوى".[31]إلا أن القناعة أن الجنسانية تتمفهم، على نحو حصري داخل صيغتها الثقافية ما هي إلا ضربا من الهذيان، تعرقل مسيرتنا المعرفية التحررية وتعيق إدراكنا لقدرتنا على الإدراك. وبسبيل الخلاص المعرفي، عندما نلجأ إلى بعض الكتابات التنويرية والتحليلات المادية المعاصرة، نكتسب منها تأسيسا هاما في التحليل الاقتصادي، لكنّها غالبا ما تكون مصابة بفقر نسويّ عندما، أو بحال، تطرّقت للجنسانية، فإما تموضع العمالة النسائية والحيز الخاص على هامش الرأسمالية، أو تَغفل دور الرجولة المغايرة في الحفاظ على الهيمنة الاقتصادية، على الأقل حتى أولى مراحل الرأسمالية الحديثة.
بالواقع، يؤكّد لنا الإمعان التاريخي الجينيالوجي للجنسانية، أنه لا يمكننا إلا أن نعزوَ أساس التحركات المجتمعية المجنسنة للعوامل الاقتصادية والقواعد المادية المنظمة لها. إن أنماط الإنتاج ببناها التحتية، وتقسيم العمل الناجم عنها، وإن كانت تبدو غير مرئيّة، تؤثر تأثيرا ملموسا على المفهمة الديناميكية (المتغيّرة) لشهوات الجسد، والأدائيات الجندرية، وما يتبعها من عمليّات مأسسة، وآليات صهر للهويات المنبثقة عنها. لا نقصد بهذا وصف القواعد المادية قالبا مجمّدا لا تاريخيا أو إلها مُنزلاً ذا قدرة حسم اجتماعية مطلقة. على العكس تماما، على تحليلنا أن يكون نقديّا حيّا يتتبّع عمليات التفاوض والتناحر الجارية عبر الصراعات المجتمعية وانعكاساتها، كانت مباشرة وفورية أم آتية وفي قيد التشكل.
وبسياقنا الفلسطينيّ، يتخبّط الجسد الجنوبي، بين النظام الرأسماليّ الحديث والسلطة الاستعماريّة بكلّ تجلياتهما، فقد تظهر تناقضات داخل حركة التفاعل ما بين مدّ السياسات الاستعمارية وجزر كونيّة التأثير الرأسماليّ لكنّها لا تكون اختزاليّة، بمعنى أنّ الأولى لا تأتي نفيا للثانية، فعلينا أن نعي أنه لا من تضادّ بنيويّ بين جوهر الرأسماليّة العالمية وأذرعها الاستعمارية في المنطقة.
وبمساعي التحرّر منهما تبرز ألغام أيدولوجيّة تارة وتكتيكيّة تارة أخرى، فترسو نفس التساؤلات المزمنة في أولويات التحرر، أو بالأحرى ثانوية المسائل الاجتماعيّة والطبقيّة أمام "السياسيّة" بتعريفها الضيّق.
وبينما تحتدّ التحسّبات حول حدود الاستفزاز المجتمعيّ المحمول وذاك المرفوض دون أن يكون هناك استفزاز مطلوب، يتم إلحام الفكر النسويّ المسيّس بالدّاء النخبويّ ليخفت صوته خجلا ويطأطئ رأسه تواضعا قبل تجذيره عملا سياسيا تعبويّا. وكأن محاكاة القمع الذكوريّ في صيرورة التحرر الوطني لا تمت لتجارب المجتمع بصلة، أو أن الجسد الشعبي هو جسد فوق جنسانيّ له رواية واحدة متجانسة لا يحتقن داخله قهر نسوي أو حقد طبقي في يوميات معاداته للاستعمار.
بالحديث عن "الفكر الناقد" و"العمل السياسي الجذريّ" ليست القضية في التعابير المختارة ولا في مداها اللغوي، بل بالمعنى المفاهيمي الذي تحمله وبرؤيتها التحريضية نحو عملية تحويل ثورية لبنية علاقات الإنتاج القائمة. إن الهدم الشامل للاستبداد الاستعماري يستلزم فكرا ناقدا قادرا على فهم سلطويّة نمط الإنتاج الرأسماليّ ووكلائه وعلى شحذ الوعي النسوي الطبقيّ كقوّة دفع للنضالات الشعبيّة وكحجر أساس في الصراع الأيدولوجيّ ضدّ العقيدة الصهيونيّة.
عند دقّ المسمار الأخير في تابوت الخاتمة، سنختار ألا ننهي بمقولة مهدي عامل المستهلكة "إما إن يكون الفكر نقديا وإما أن يكون مخصيّا" ولن نكونقاتلات للبهجةبالتساؤل عن مصدر الهوس الذي ما زال يصرّ على ربط الإخصاء الذكريّ بالعجز الفكري، بل سنكتفي بما ورد في السطور السابقة وما تقدّم بينها.
هوامش
[22]Chibber, Vivek. 2013.Postcolonial Theory And The Specter Of Capital. 1st ed. London: Verso. p 150 151.
[23]عامل، مهدي (1985) ،مقدّمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرّر الوطني، ط4 دار الفارابي، بيروت ص٦١.
وفيما يخصّ مفهوم نمط الإنتاج الكولونياليّ كنمط ذي خصوصيّة إنتاجيّة لا يسعنا إلا نتساءل عن مدى هذا الخصوصيّة. ألا يقوم الواقع الاقتصادي الكولونيالي على أساس طبقي رأسمالي لصالح رأسمالية المركز؟ هل يغيّر شيئا من المنفعة الطبقية باستخراج فائض القيمة؟ لا يمكن أن تحتل هذه التساؤلات في هذا النص أكثر من تنويه على هامشه.
[24]المرأة والرجل في فلسطين،قضايا واحصاءات، تشرين ثاني٢٠١٣، الجهاز المركزي الفلسطيني، ص ٣٤.
[25] أي انتقلت من معدل طلاق خام 1.7 لكل ألف من السكان لمعدل طلاق خام ١.٢ لكل ألف من السكان.مركز المعلومات الوطني الفلسطيني وفا نقلا عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني
[26]معهد فان لير، كتاب المجتمع العربي في اسرائيل (٨) شريحة سكانية، مجتمع، واقتصاد. (٢٠١٦) تحرير: رمسيس غرّة.ص ٣٠ ٣٤
[27]ووفقا لتوقعات التغيرات الديمغرافية التي نشرتها دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية أن نسبة العرب ستنخفض من 21% عام 2016 إلى ما يعادل 19% في حلول العام 2065. معهد فان لير،كتاب المجتمع العربي في اسرائيل(٨)شريحة سكانية، مجتمع، واقتصاد. (٢٠١٦) تحرير: رمسيس غرّة.ص ١٧.
[28]https://www.alwatanvoice.com/arabic/news/2011/09/28/194983.html
[29]بحسب إحصاءات الجهاز المركزي الفلسطيني التي أجريت عام ٢٠١٣ والتي مسحت مناطق في الضفة الغربية وقطاع غزة " ارتفع العمر الوسيط عند عقد القران للذكور في عام ١٩٩٩من ٢٤.١ إلى ٢٤.٦ في العام ٢٠١١، في حين ارتفع العمر الوسيط عند الزواج الأول لدى الاناث من ١٨.٨ عام ١٩٩٧ إلى ٢٠ سنة عام ٢٠١١".المرأة والرجل في فلسطين، قضايا وإحصاءات، تشرين ثاني ٢٠١٣،الجهاز المركزي الفلسطيني، ص ٣٤.
[30]استنادا إلى نتائج مسح الأسرة الفلسطيني للجهاز المركزي الفلسطيني (والتي لا تنظر إلى العائلة الفلسطينية في مناطق ال٤٨) فقد "طرأ انخفاض على معدل الخصوبة الكلية، حيث بلغ ٤.٤ مولودا للفترة ٢٠٠٨ ٢٠٠٩ مقابل ٦.٠ مولودا في العام ١٩٩٧"
انظري:المرأة والرجل في فلسطين، قضايا واحصاءات، تشرين ثاني ٢٠١٣،الجهاز المركزي الفلسطيني، ص ٣٤.
وفي أراضي ال٤٨، هناك ارتفاع أيضا في سنّ الزواج الأول يمكن ملاحظته في العقدين الأخيرين. وبحسب معهد فان لير الاسرائيليّ ارتفع معدّل سنّ الزواج لدى الرجال من ٢٦ عام ٢٠٠١ إلى ٢٧ عام ٢٠١٢، أما لدى النساء فارتفع من ٢١ إلى ٢٢ في ذات الفترة.
انظري: معهد فان لير،كتاب المجتمع العربي في اسرائيل(٨)شريحة سكانية، مجتمع، واقتصاد. (٢٠١٦) تحرير: رمسيس غرّة.ص ١٧ ١٨.
[31]انظري: مقدّمة اشتهاء العرب. مسعد، جوزيف(2014)،اشتهاء العرب، ترجمة: ايهاب عبد الحميد، ط2، دار الشروق، القاهرة. ص21