مقدمة
تشكل إعادة صياغة زاوية “مثليون ونص” وتحويلها وتغيير عنوانها إلى “كويريات” مثالاً رائعا، بل تجسيد للتغييرات الجوهرية التي طرأت على الحركة الجنسانية الفلسطينية، وبالأخصّ الشقّ الكويري منها الذي يشدّد إلى حد كبير على ضرورة استناد التنظيم الكويري الفلسطيني على خلق “خطاب” جنساني محلي مستديم، كأداة مركزية للتغيير بواسطة الانتقال من الخطاب “المثلي” إلى “الكويري”.
لعله التابو المتعلق بموضوع الجنسانية على الصعيديْن الخاص والعام هو الذي أدّى بنا في مجموعة “القوس” ومجموعات ناشطة أخرى، إلى البحث خلال العقد الأخير عن استراتيجيات وأطر فكرية مستوحاة من تجربتنا في الحقل، بحيث يكون بمقدورها احتواء حساسية الموضوع من دون المسّ بجوهر رؤيتنا والتغيير الذي ننشده. كان هذا المنطلق بداية، إلا أنه لا يجسد في طبيعة الحال مجمل الأسباب التي قد تُفسر انتقالنا من “المثليّ” إلى “الكويريّ”.
سنحاول في هذه المقالة إلقاء الضوء على السيرورة التي قطعناها نحو استكشاف النشاط الكويريّ، عِوضا عن النشاط المثليّ، عبر اعتماد النظرية الكويرية كإطار يفسح مجالاً أوسعَ، وتطويرها لتناسب واقعنا ولخلق خطاب ذي صلة مع سياقنا المحلي وواقعنا السياسي والاجتماعي والثقافي، يكون قادراً على احتواء مجموعات وفئات مختلفة كشركاء حقيقيين في مسيرة التغيير.
ما هي إذًا النظرية الكويرية؟
هو اسم شامل لمجموعة من النظريات النقدية تطوّرت في الخطاب الأكاديمي في تسعينات القرن الماضي، من قلب الدراسات النسوية والمثلية، وهي تركّز على قضايا الجنسانية والنوع الاجتماعي (الجندر) والميل الجنسي، وتتعامل معها على أنها مُصنَف مركزيّ يمكن من خلاله فهم ظواهر اجتماعية وسياسية وثقافية أخرى. يمكن القول إنّ هذه النظرية تقوم بتحليل العمليات التي تتشكل من خلالها الجنسانيات في المجتمعات بشكل عام، والهويات الجنسية بشكل خاص.
تأثرت النظرية الكويرية كثيراً بمؤلفات ميشيل فوكو وإيفا كوسوفسكاي وجوديت باتلر، حيث بُنيت من مجمل ما بُنيت عليه، على التحدّي الذي قامت به النسوية للفكرة القائلة بأنّ النوع الاجتماعي (الجندر) هو الجوهر الأساسي للهوية النسوية وللنضال النسويّ، كما بُنيت على الدّراسات المثلية التي فحصت وبشكل أساسيّ طبيعة المبنى الاجتماعي للعلاقات والهويات الجنسية.
وفي حين تقوم الدراسات المثلية بالتركيز على دراسة طبيعية السلوك أو عدمه في ما يتعلق بالجنسانية المثلية، تقوم النظرية الكويرية بدراسة أوسع تشمل كل مجالات وأنواع النشاط الجنسي والهويات الجنسية التي تُصنَف تحت فئات ما هو ملتزم بالسائد أو منحرف عنه. النظرية الكويرية مستمَدة أساسا من نظرية ما بعد البنيوية {النظرية البنيوية هي تلك التي وضعت تمييزا بين الجنس (sex) والنوع الاجتماعي (gender)} وهي ذات توجه تفكيكي نقدي للتأثير على كل ما يتعلق بقضايا الهوية الجنسية، وخصوصا على تشكيل الفكر الملتزم بالجنسانية الغيرية السائدة، وهي تتحدى صحة وثبات الخطاب الغيّري البحت (الهترونورماتيف)، وتُركز إلى حدّ كبير على الجنسيات والممارسات الجنسية غير الغيريّة.
من أهم نقاط قوى النظرية الكويرية أنها لم تكن أبدًا نظرية كتبت لتبقى على الورق، إذ أنّ هناك علاقة جدلية مستمرّة بين النظرية والتطبيق، والتي تؤدّي إلى استمرار تطوّر النظرية مع تغيّر الظروف السائدة وحسب الموقع والسياق. وتُعدّ حركات تحرّر السّود في أمريكا -وبالأخص الكويرية والنسوية منها- من أوائل من ساهم في تطوير النظرية الكويرية من خلال نشاطهم على أرض الواقع، ومعاناتهم من النسوية والمثلية البيضاء التي كانت ترفض أن تنظر إلى نضالهم كسود على أنه نضال مرتبط بالنضال النسويّ الكويريّ، كما كان لحركات المتحوّلين/المتحوّلات جنسيا أيضًا دور كبير هنا، إذ عانوا هم أيضًا هذا الرفض وعدم القبول من الحركات النسوية والمثلية في الغرب.
تأتي “كوير” كما هي مستخدمة في النظرية الكويرية لنقد الهوية الجنسية والجندرية المقولبة والمحددة. تشمل الجوانب الرئيسة لهذا النقد تحليل واستكشاف: دور الإداء/العرض (Performance) في خلق الهوية والحفاظ عليها؛ أسس الجنسانية والجندر، سواء أكانت طبيعية أم جوهرية أم مبنية اجتماعياً، والطريقة التي تتغير فيها هذه الهويات أو تقاوم التغيير، وعلاقات القوى بينها في مقابل الهترونورماتيف الذي يؤدّي إلى إعادة صياغة متكرّرة للمجتمع كمكانٍ خالٍ من التعدّد الجنسي، وبالتالي إلى تعزيز الهوية الغيريّة وكأنها هي المشرّعة والطبيعية الوحيدة. “الكوير” إذًا هو كلّ ما هو على خلاف مع العاديّ والشرعي والمُهيمِن. الكويرية هي هوية انسيابية، لا تعترف بجوهر واحد، ولا بدور اجتماعي أو هوية جنسية مقوّلبة جاهزة للاستهلاك المجتمعي والكويرية ترفض و تتحدى رؤية الهويات الجنسية كأمور جوهرية – ليس فقط المثلية منها– وإنما كبنية اجتماعية والتي ينبغي تفكيكها تماما كما فُكك الجندر والعرق من قبل.
لا عجب أن تعير النظرية اهتماماً خاصاً لما يُسمى بالـ “cross-dressing”، وهو ارتداء لباس لا يتناسب ثقافياً مع جنس مرتدي اللباس، وخاصة الذكر الذي يرتدي لباس امرأة. إنّ ذلك يوضح الكثير من ملامح النظرية التي نحن بصددها وخصوصاً النظرية الإنجازيّة عند باتلر والتي تنهض على تصوّر الجندر بوصفه عملا إنجازيّا يبيّن أنّ ما نعتبره بمثابة الجوهر الرئيس (الهوية الجنسية أو الجندر) إنما هو مصنوع بواسطة تسلسل متكامل من الأعمال المستمرّة، وأنّ ما نتصوره خاصيّة داخلية فينا إنما يعرب عمّا نتوقعه وننتجه من خلال بعض التصرّفات والحركات الجسدية. غير أنّ لهذه التصرفات -في بعض الأنظمة والسياسات الجنسية- تبعات جزائية؛ فهي لا تتوانى عن معاقبة أولئك الّذين لا يتوصّلون إلى إنجاز نوعهم الاجتماعي المتوقع منهم وصنعه على النحو اللائق المطلوب أو المستقيم .(straight) ومعنى ذلك أنه لا وجود لتعريف ثابت للجندر، ولا صورة واحدة للجندر، فهو ليس معطى ثابتًا أو جاهزًا لأنه لا وجود له من دون الأعمال التي تُكوِنه.
الآن ننتقل للتساؤل عن الصلة بين الكويرية وبين الحركة الجنسانية الكويرية الفلسطينية؟
مظلة أكبر للتحرّر وممارسة الحرّية
كما قالت باتلر، وفقا للمنظور الكويريّ، فإنّ فكرة كون الجنسانية الغيريّة طبيعية ليست بحقيقة بيولوجية، إنما هي منتوج اجتماعي. كمشروع سياسي، النظرية الكويرية تسعى الى خلخلة التمييز الأخلاقي بين الجنس الغيّري التكاثري وبين تنوعات جنسية أكثر تعددية. إذًا، النظرية لا تكشف حقيقة قمع المثليين، فقط، بل تقوم بفحص الغيريّة ذاتها والوسائل التي تقوم الغيريّة الجنسية باستعمالها من أجل إقصاء أفعال وهويات غيريّة غير عادية كاللا-جنسية وغيرها. نفهم من ذلك أن النشاط الكويري لم يعد يقتصر على المثليات والمثليين، ومن هنا اعتقادنا المدعوم بتجربتنا على مدار العقد الأخير، بأنّ انتهاجنا النظرية والنشاط الكويرييّن يؤدّي إلى انضمام ناشطين من مجموعات مختلفة غير مثلية إلى مسيرة التغيير، تحت مظلة أكبر بإمكانها أن تحتوي من هو ليس بمثلي أو مثلية ويهتم بتجارب التحرر والحرية والتخلص من القمع أيًّا كانت أشكاله.
إن اتّباعنا هذا المنهج وتعميقه فكراً وممارسة في عملنا، يفضي بالضرورة إلى رفض كافة أشكال القمع وتجلياته على المستوى البطريركي والاقتصادي والقومي والإثني: التحرّر من السلطات المركزية القديمة؛ تقويض النظام الأبوي الصارم والسلوكيات المحافظة التي تميز المجتمع؛ معاينة نقدية للمفهوم الجوهري للقومية والذي يغيّب علاقات القوى على المستوى الطبقي والجندري داخل المجموعة القومية؛ مساءلة كل الفرضيات والمسلّمات وكسر المحظورات والمعايير الدينية؛ واستنهاض كل ما أقصي إلى الهامش وتطويره. بعكس النشاط المُقتصر على المثلية والذي ينادي بـ”القبول” وبتمثيل المثلي ضمن إطار خطاب الحقوق (زواج، تبني الأطفال وغيره)، نحن نؤمن بأنّ نشاطنا الكويري يساهم في بناء مجتمع مدني فلسطيني منفتح يحترم الاختلاف والتعددية ويذّوت التصوّر اللاهرمي للهوية الجنسية والجندرية ويتيح للأفراد العيش على نحو منفتح ومُتساو، بغضّ النظر عن الجنسانية والميول الجنسية والهوية الجندرية، أو أي اختلاف آخر عمّا هو سائد.
الانضمام للنضال الكويري لن يقتصر فقط على من له أصدقاء أو أقارب مثليات ومثليون، بل سيتوسع الباب لينضمّ إليه كل من يدرك كيفية عمل وتأثير النظام ومؤسّساته قانونياً واجتماعياً وطبياً على ضبط وتنظيم جنسانيتهم وجندرهم، وربما ما كانوا ليفعلوا لو اقتصر النشاط على القضايا المثلية.
النظرية الكويرية وفخ سياسة الهوية
ذكرنا سالفا أنّ الكويرية تسعى لتحافظ على كونها ناقدة مبتعدة عن تحديد هوية، حيث تطورت الكويرية على الفرضية بأن هناك معضلة أساسية في تقسيم الهويات الجنسية الى فئات محدّدة وهناك قيود واضحة في سياسات الهوية التقليدية بشأن الاعتراف بالهوية الذاتية. هذه النظرة تكشف محدودية الاستراتيجيات المتداولة اليوم في التنظيمات المثلية التي تعتمد غالبًا على سياسة الهوية، أو بالأحرى تقع في فخ سياسة الهوية. لأنّ ما يقف في لبّ تجربة المثليين والمثليات الشخصية هو الاضطهاد المنبثق عمّا حدده المجتمع كمعياريّ أو منحرف، والذي يعزز نوعًا واحدًا من الهوية المقبولة- تقوم المجموعات المثلية عادة بتطوير استراتيجيات عمل لا يمكن رؤيتها إلا كرد فعل يحاول تعزيز هوية جنسية أخرى مقابل الغيريّة. هذا التوجه يوطّ د ويرسّخ بعض تسميات الهويات (مثلي، مثلية..) التي جاءت النظرية الكويرية لتقاومها. فالنشاط المبني على توجه سياسة الهوية يضع نفسه بالضرورة خارج دائرة المشكلة؛ فبدلا من الدفاع عن المثليين ضد الانتقادات والقمع الغيريّ، يسمح النشاط الكويري لتلك الانتقادات بأن تكون جزءاً منه ويستعملها بشكل دائم وناقد لتشكيل توجّهاته المستقبلية.
بالرغم من النجاح النسبي للنشاط المثلي بتوفير فقاعات وردية لأفراد عانوا حقيقة عدم قدرتهم على تحقيق جنسانياتهم بما يتوافق مع ما حدّده المجتمع، إلا أنه يفشل في معالجة جذريّة للمباني الاجتماعية الغيريّة “الهترونورماتيف”، التي هي أساس القمع الجنسي أيًّا كان، لأنه يقاومها من الخارج.
لم يكن من باب الصدفة قرار ناشطي “القوس” تسمية المجموعة بـ “القوس للتعدّدية الجنسية والجندرية”، وليس بـ”القوس للمثليين والمثليات…” (ولاحقا تسمية “مثليون ونص” بـ”كويريات”)، بل كانت محاولة منا لتحدّي “نزعتنا” الأولى في الاستحواذ على هوية جنسية قد دُفِعت إلى الهامش. لم نرَ منذ البداية أنّ بوسع سياسات الهوية أن تضمن لنا سيرورة مستديمة أو إطارًا بإمكانه احتواء التركيبة المميّزة للجنسانية وتعبيراتها في المجتمع الفلسطيني. وإن كانت قد شغلتنا قضية التمثيل السياسي فقد فضّلنا عدم الإعلان أننا نمثل “المثليين والمثليات” في المجتمع الفلسطيني، وكان همّنا الأكبر فحص شروط هذا التمثيل ونواياه وتأثيراته وبالأخص طرق التعامل معه داخلياً من أجل استرداد قوتنا مقابل مراكز القوة الموجودة.
بالإضافة إلى ذلك فقد لاحظنا من خلال نشاطنا عن قرب كيف أنه من السّهل التغاضي عن الجندر والعرق والتركيز على الميل الجنسي. لقد أثبتت تجربتنا في الحقل أنّ الغيريّة لا تقوم فقط بتحديد الهرمية الخارجية للهويات والميول الجنسية وإنما تعزز نفس الهرمية داخلياً لتدفع بأفراد ذوي تعابير جندرية معينة داخل المجتمعات المثلية إلى الدرجات السّفلى. نحن نؤمن بأنّ تنظيمنا كمجموعات مثلية يجب أن يرتكز على رؤية عدم إمكانية الفصل بين الجندر والجنسانية ومحاربة الهرمية الجنسية والجندرية داخليا وخارجيا على السواء ومحاولة تفكيكها.
السياسة والنشاط الكويري
ذكرنا أنّ الفكرة الجوهرية للتنظيمات المثلية هي رؤية المثليات والمثليين كمجموعة واحدة ومُعرّفة حسب الميّل الجنسي المشترك لأفرادها. الفرضية هي أنّ للمثليين شهوات جنسية متشابهة وطموحات متشابهة بالنسبة لإدارة حيواتهم. الاستنتاج السياسي من هذه الرؤية هو أنّ على أفراد هذه المجموعة أن يعملوا سوية على تبني ثقافة المجموعة ووضع الأمور الأخرى (الجندر والانتماء القومي والطبقي وغيرها) جانبًا. في المقابل، يرى المنظور الكويري غير ذلك وهو لا يقف عند قضايا الجنسانية والجندر والميل الجنسي -وان كان يركّز عليها- بل يمتدّ إلى أبعد من ذلك لمزيد من التفكيك العام للعلاقات القائمة وبالأخصّ السياسية منها. النظرية الكويرية تحلل علاقات القوى وترى هيكليات القمع من خلال السّياق الأوسع، ومن هنا قرارنا بالاستمرار باستكشافها في نشاطنا والتزامنا بمنهج النقد الذي هو أكثر ما يميزها.
نحن نثمن الحركات الحقوقية المثلية العالمية على نشاطها وانجازاتها ودعمها لنا، لكن علينا دائما أن نكون حذرين عند استعمالنا لخطابها وعدم السّماح له بالهيمنة. هذا يعني أن ندرك مَن يُحدد مصطلحات هذا الخطاب وإطاره وأهدافه. هذا هو النقد المطلوب والهامّ لنا هنا في فلسطين على وجه الخصوص، لأننا نرى وبلا انقطاع كيف يقوم أناس من الغرب البعيد والغرب القريب (إسرائيل) بالتحدّث باسمنا، كي ينقذونا ويخلصونا من أناس نحن منهم ونعيش معهم!
علينا أن نعي دائمًا أنّ عولمة النضال قد تسيء له لأنها قد تُعريه من السياق والتاريخ والبيئة واللغة والعلاقات والسياسة الخاصة به. وإن فعلنا ذلك فإننا نكون قد أخطأنا لأنه هذا هو النمط الذي يعيشه الناس وهكذا يعرّفون أنفسهم.
حياتنا سياسية ويجب علينا كناشطين كويريين أن نتعامل معها بهذا الشكل. نحن نؤمن بأنّ كلّ النضالات المختلفة في مجتمعنا هي أجزاء لنضال واحد. قد نؤكّد على الجانب الكويريّ لكن لا يمكننا إنكار الجوانب الأخرى. ككويريين فلسطينيين لا يمكننا تجاهل الاحتلال والعسكرة والقومجية والحرب والعنصرية ونقوم بالتركيز على حقوق المثليات والمثليين. فهذا يعني بالضرورة عدم ارتباطنا بالسياق العام الذي نعيشه. في لقاءاتنا كمجموعة ناشطين قلّما نسمع مصطلحات كـ “رهاب المثلية”، “الخروج من الخزانة”، “الخوف من الأصوليين المتشددين” وغيرها من مصطلحات قد تكون أساسية في التنظيمات المثلية الغربية. إنّ هذا ليس من باب القول بأنّ لا مشكلة لنا مع هذه الأمور، ولكن هذا لإدراكنا محدودية هذه السّجالات في مجتمعنا. فبدلا من التحدث عن “الخروج من الخزانة” فإننا نتحدث عن كيف لنا أن نخرج من الخزانة كجَمع يخرج بالسّجال حول التعددية الجنسية إلى داخل الخطاب المركزي؛ بدلاً عن “رهاب المثلية” نحن نناقش كيف يتوجب علينا عدم الوقوع في فخ تقسيم الناس إلى فئة مُتقبِلة للمثليين وأخرى تعاني رهاب المثلية. فاستعمال هذا الخطاب يتجاهل علاقاتنا ووجودنا ككويريين وكجزء من هذا المجتمع. لأننا أيضا كمثليين ومثليات نحن نتاج نفس تنشئة “الهيترونورمتيف” ونحن كما باقي فئات المجتمع نعاني رهاب المثلية!
نحن نناقش كيف علينا التعامل مع المُمَولين والحركة المثلية العالمية، لأنه قد تبينت لنا الإشكالية في تعامل هذه الجهات معنا كحركة محلية. نحن نناقش الخطر الكامن في ظواهر كتعاظم القومية المثلية “homonationalism” وما يُسمى بالـ ”pinkwashing”والتي تظهر جليا في السياسات الإسرائيلية تجاهنا خصوصا في المناطق المحتلة عام 1967.
هذا التكتيك الذي تسعى إسرائيل وحلفاؤها من منظمات بواسطته إلى زعزعة حركة التضامن الفلسطينية وعلاقاتها مع حركات أخرى عالمية. تحاول إسرائيل من خلاله تقديم نفسها كمتسامحة ووديّة للمثليين في محاولة منها للتغطية على انتهاكاتها للحقوق وعنصريتها التي نواجهها كلّ يوم، فتقوم بتصوير المجتمع الفلسطيني على أنه “هوموفوبيك” وعنيف بينما تقوم بتصوير نفسها على أنها تُطوِر المثليين وحقوقهم في إسرائيل وتقوم بإنقاذ المثليين الفلسطينيين المُطاردين من مجتمعهم. كل هذه الصور هي ذات اشكالية وغير صحيحة، يتوجب علينا نقدها بل ومقاومتها.
من “مثليون ونص” الى “كويريات”– اللغة كنشاط كويريّ
استخدمت ثقافة الهترونورمتيف اللغة كأداة من أدوات سيطرتها وهيمنتها، والتي عززت مركزيتها في الخطاب السائد والمتداول. وقد انتقد الخطاب المُبكِر للنظرية الكويرية تلك الثقافة كثقافة قامعة لكلّ ما هو غير سائد. من المفيد الذكر هنا أن النظرية الكويرية قد شُبّهت كلغة وذلك لأنها ليست ثابتة أبدًا، ولكن متطوّرة باستمرار. لقد اعتمد تطور اللغة الكويرية على نقدها لفرض الثقافة السائدة لهياكل وتسميات من صلبها، والتي جعلت ثقافة الهترونورمتيف المُسَيطِر الرئيسي على الخطاب الجنساني.
لقد عُرف عن الثقافة العربية/الإسلامية في بعض حقباتها الذهبية انفتاحها حيال أمور الجنسانية (في مقابل قمع الكنيسة في الغرب)، حي كان الجنس متقبلا كوسيلة للمتعة وليس للإنجاب فقط وقد هاجم الغرب هذه الثقافة في العصور الوسطى واستخدمت كدليل على انحراف العرب وتخلفهم. إلا أنه ومع تراجع الدور العربي والإسلامي وانفتاح المثقفين والشيوخ على الثقافة الغربية منذ بدايات القرن التاسع عشر، انتقلت عدوى الهترونومورتيف والسّيطرة على اللغة الى العرب، وبدأت مرحلة محو هذا التاريخ وإزالته من ذاكرتنا الجمعية. فمن الرقابة على كتب عديدة مثل كليلة ودمنة ومحو بعض الأجزاء الـ ”مُخلة بالأدب” من الطبعات الجديدة، إلى رفض الكتابات الايروسية وتغييب شعر الغلمان- تم فرض سيطرة حديدية على اللغة العربية لم تعرفها من قبل.
إنّ هذا الانغلاق الطارئ على اللغة لم ينجح في القضاء على ”الظواهر الشاذة” التي أصبحت غير مقبولة خلال فترة زمنية قصيرة. إلا انه أدّى إلى تقليص الحيّز المتقبِل لها، وانزواء العديد منها في الخفاء. ومن هنا فإننا نرى مشروعنا اللغوي الكويري مرتبطا بتاريخنا وهادفا إلى إعادة ذلك الجزء المغَيّب من التاريخ إلى السطح ونفض الغبار عنه وتطويره بما يقتضيه العصر وتطوراته، وبالتأكيد هو ليس مشروعا غربِيا طارئا على مجتمعنا كما يحبّ البعض الترديد.
لقد واجهت الرقابة التقليدية على النشر المؤسّساتي تحديات جدية في عصر الانترنت، إذ فتحت الشبكة العنكبوتية باب المعرفة على مصراعيه، ممّا أعاد الفرصة لكلّ ما هو ممنوع، لكلّ ما هو تابو، ولكلّ ما هو على الهامش- إمكانية التعبير عن أنفسهم ونشر خطابهم من دون رقابة. وقد أدى ذلك إلى تحدي الثنائية البارزة في خطاب الجنسانية (المثلية والغيرية) وأفسح المجال للمتحوّلات/ين جنسيا و الـBDSM وغيرها، من فرض خطابهم على الساحة بعد سنين من التهميش والتجاهل.
بناءً على ذلك، وإيمانا منا بأنّ إنتاج وإعادة إنتاج خطاب محلي جنساني كويري بشكل إبداعي ومستديم هو أحد شروط نجاحنا كحركة تغيير، وضمانا لاستمرارنا في البحث عن أطر واستراتيجيات فيها، لا نكتفي بتحدي المفاهيم الخارجية فقط، بل نخوض نقاشًا مستمرًا حول اختياراتنا خوفا من أن نكبو، وأين فشلت مؤسسات الهترونورماتيف والمثلية الجنسية في احتواء جميع التعبيرات الجنسية. ولأننا مدفوعون بشغف عميق لمراوغة اللغة العربية واكتشاف وفتح حدودها اللغوية والاجتماعية المغلقة والمنغلقة في موضوع الجنسانية والجندر، ولأننا نسعى إلى إعادة تشكيل الفضاء الاجتماعي العام وتكسير هرميته، فنحن نرى أهمية بالغة للاستمرار في مغامرتنا المشتركة مع “قديتا” في حلة جديدة، “كويريات”، والتي هي وكما حاولنا أن نبيّن هنا، أكثر قربا لفكرنا ونشاطنا، من دون أدنى شك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
المقال نشر لأول مره في موقع قديتا