المقالات // كتاباتنا // العنف الجندري في وسائل التواصل الاجتماعي

العنف الجندري في وسائل التواصل الاجتماعي

تزدادُ في الآونة الآخيرة وتيرة وحِدَّة المواضيع المنشورة عبر وسائل التواصل الاجتماعي (الفيسبوك نموذجاً) والموجَّهة ضدّ أفراد تجاوزوا - قصدًا او سهوًا- الأدوار الجندرية المعياريّة في الحيّز العام. وذلك إمّا من خلال اللباس والمظهر، أو عن طريق سلوكيات معينة تُصَنَّف جميعها في صفحات فيسبوك بأنّها تصرّفات خارجة عن الادوار الاجتماعية المتوقعة من “الرجل” او “المرأة” وغير لائقة “بمجتمعنا.”

عادة ما تثير هذه المواضيع والمواقف المطروحة عبرها عاصفة من ردود الفعل عن طريق عشرات بل مئات التعليقات الساخرة والعنيفة، التي تَصِلُ إلى حَدّ التهديد المباشر والخطير تجاه الأفراد المهاجَمين. هذا الجوّ العنيف الذي يبدأ عادة مع نشر فيديو أو جرافيتي أو “شاب يلبس تايتس/فيزون”، يستمرّ بضعة أيّام مستحوذًا على اهتمام مئات المعلّقين ونسبة أقلّ من المعلِّقات. تعزز تلك التعليقات كره النساء والنظرة الدونيّة للمرأة والذكورية المتفشية في مجتمعنا، وذلك بذَمّ هذه التصرفات ووصفها بأنّها غير رجولية، مثل: “وين شباب بلدنا؟ تفي ع هيك اشكال”؛ “الكلب حاسه عنده رجوله أكثر منك”؛ أو “شو بوجعك؟ يا زلمه، آسف قصدي يا ست”. القسم الآخر من التعليقات يحسم بضرورة نبذ وقتل هؤلاء الأشخاص حيث نرى تعليقات كاملة من ايكونات المسدّسات وهاشتاجات داعش، مثل: “لا، كتير هيك، انا بقول داعش لازم يعمل حملة تصفيه بشكل فوري”؛ “اقتلوهم قبل ان يتكاثروا.”

يثير هذا الجو العنيف استياء الكثيرين من الأفراد والمجموعات ومنها مجموعة القوس. الاستياء الّذي تقابله تساؤلات قد يطرحها كثيرون حول دورنا في ظلّ ازدياد هذه الظاهرة. لذلك نشير إلى أنّ القوس ومجموعات أخرى، تعمل خلال العقد الأخير مع أعداد كبيرة من الشباب والأفراد الذين يعيشون توجهات جنسية وجندرية مختلفة ومتنوعة، بالإضافة إلى عملنا المباشر مع مجموعات المستشارين/ات والمعلمين/ات والاخصائيين/ات وطواقم مؤسسات المجتمع المدني في شتى أنحاء فلسطين. لهذا لا تفاجئنا كثيرًا ظاهرة العنف الجندري عبر صفحات الفيسبوك. إلا انها كأي موضوع يتم تداوله في وسائل التواصل الاجتماعي، يصل الى عدد اكبر من الناس ويكون له حيز اكبر من الاهتمام لما يحدث بشكل يومي في الشارع والبيت والمدرسة. لذا نهدف في هذه المقالة** إلى التطرّق لبعض النقاط التي بإمكانها إثراء النقاش ووضع الظاهرة في سياقها الأوسع، وذلك كتتمّة للقاء هوامش الاخير (ملتقى فكري حول مواضيع التعددية الجنسية والجندرية) بعنوان: “قراءة جندرية للمثلية الجنسية“.

بناء على ذلك، وجدنا من الضرورة التطرق إلى أربع نقاط رئيسة في هذه المرحلة، مع وعينا التامّ لوجود نقاط أخرى والّتي بإمكان القرّاء والأصدقاء طرحها كتتمّة للنقاش.

ربط التعابير الجندريّة بالمثليّة

من خلال متابعة التعليقات لاحظنا كثيرًا من الغلط واللّغط، أبرزها رَبط هذه التصرفات والتعابير الجندرية “المرفوضة” (بنوتي، بترقوص، لابس فيزون) بشكل مُطلق وفوري بالمثليّة والمثليّين/ات. هذا اللغط الاجتماعي يعرّف كل من لديه تصرفات او تعابير “غير رجولية” بأنه “مثليّ”، إشارة إلى أنّ الشاب المثليّ هو بالضرورة “أنثويّ”، والشابة المثليّة هي بالضرورة أكثر “رجولية.” ولكن الربط المطلق والدائم للميول الجنسيّة بالمظهر والكلام والتصرّفات هو خطأ شائع لا نلاحظه في التعليقات العنيفة فقط، بل ايضا من خلال ورشات القوس التوعوية مع المجتمع المدني بكلّ فئاته، كما أنّها متداولة في أوساط المجموعات المثليّة أيضا.
إنّ الهوية الجنسية لأيّ فرد مركّبة من الجنس البيولوجي، النوع الاجتماعي، الميول الجنسية، الهوية الجندرية والسلوك الجنسيّ- ليس هنالك بالضرورة علاقة بين المركبات المختلفة وإن كانت جميعها تكوّن هويتنا الجنسية. كذلك الأمر بين التعابير الجندرية والميول الجنسيّة، حيث لا توجد علاقة مطلقة بين الاثنين.
على سبيل المثال، هناك مَن تعابيرُهُ الجسدية وتصرفاته تتوافق مع ما أملاه المجتمع (رجولي)، ولكن في المقابل نجد أنّ ميوله الجنسية والعاطفية هي لنفس الجنس (مثلي) والعكس صحيح. العنف الجندري قد يكون مصير كل شابة وشاب لا يتماشون مع توقعات ومعايير المجتمع الجندرية -لأيّ سبب كان- من دون علاقة لميولهم/ن الجنسية والعاطفية أو ممارساتهم/ن الجنسية أو هويتهم/ن الجندرية.

الرجولة والذكورية، قضية نسوية

العنف تجاه هؤلاء الأفراد هو وجه آخر للعنف المتعارف عليه اكثر والموجَّه ضد النساء والفتيات اللواتي يتجرّأن -مثلًا- على الظهور بملابس “مستفزة”، أو يتجاوزن حدود دورهنّ كنساء في المجتمع (خاضعات، ملتزمات، لا جنسيّات…). التعليقات التي نقرأها في الآونة الأخيرة تتشابه مع الكمّ الهائل من التعقيبات العنيفة تجاه النساء والتي تصل الى التهديد بالقتل والاغتصاب. العنف تجاه الذكور الذين لم يستجيبوا لتعريفات الجندر المُسقَط عليهم (رجل، رجولة) يندرج أيضا في نفس هذا السياق المجتمعي الذكوري الذي ينبذ أيّ تصرف خارج عن الادوار والتعابير الجندرية المتعارف عليها.

رفض التعابير الجندرية غير المتماهية مع المجتمع (وكامتداد لها: رفض المثليين) وتصنيفها بأنها غير رجولية يعزّز بطريقة مباشرة فوقية الرّجل على المرأة. فالرفض والعنف هذه المرّة ليسا ضد المرأة التي خرجت عن دورها الاجتماعي، بل ضدّ هؤلاء الذين “يتشبّهون بالمرأة”، ولهما صلة مباشرة مع ذكورية المجتمع. إنّ أي خروج عن الأدوار السائدة هو تهديد لمكانة الرجل في أعلى هذا الهرم ممّا يجعله ينصّب نفسه حارسًا للنظام الذكوري، حتى وإن لجأ المجتمع غالبًا الى التذرّعَ بحُجَج واهية مثل: “ظواهر مستوردة من الغرب” أو “تصرّفات لا تليق بمجتمعنا المحافظ”.

لذلك فإنّ محاربة الذكورية في مجتمعنا (كقضيّة إنسانيّة نسوية) هو من أُسُس نضالنا المثليّ والكويري. وربطه مع كره النساء المتفشّي في المجتمع وقمع المرأة هو ضرورة أساسية لفهمنا ظاهرة العنف الجندري بشكل شمولي وعميق. وبالتالي فإنّنا نرى أنّ خلخلة وهدم الأدوار الجندرية المعيارية القامعة هي خطوات ضرورية في أي نضال جنساني تحررّي.

الفيسبوك يعكس ظاهرة موجودة

من خلال عملنا المباشر مع فئات شبابية رأينا أنّ الخطاب العنيف والشعبوي المنتشر والّذي نلاحظه عبر صفحات الفيسبوك ما هو إلا انعكاس لما يدور يوميّا في ساحات المدارس، صالونات البيوت وشوارع الحارات وباقي المساحات المختلفة، والتي خلافا للفيسبوك (غير الآمن) يُفترَض أن تكون مساحة آمنة وحامية لكل فرد وخصوصا للأطفال والشباب.
المضايقات في ساحات المدارس مثلًا ضدّ كل شخص “مختلف” ليست بالشيء الغريب، وانما ظاهرة مألوفة لنا من حياتنا وتجاربنا كطلاب ومستشارين وحتى كآباء وأمّهات. ولعلّ أشدها حدّة هي تلك المضايقات الموجَّهة من أولاد الصف وحتى المعلمين/ات، تجاه الأفراد الّذين لا يتماشون مع التعابير الجندرية التي يمليها المجتمع. وقد يبدأ هذا مع العنف الكلامي: “ليش بنوتي؟”؛ “حسن صبي”؛ “هومو”؛ ثمّ يتطوّر إلى مضايقات أكثر مباشرة منها: العنف الجسدي، الاعتداءات الجنسية وغيرها من ممارسات تؤدّي بالفرد إلى الانعزال الاجتماعي (في المدرسة والعائلة…)، وإلى تدنّي التحصيل الدراسي، الاكتئاب وحتى التّفكير في الانتحار.

عادة هذا الجو العنيف ليس حصرًا على المدرسة والشّارع، بل هو حالة مستمرّة في البيت، ومع الأسرة المصغّرة قبل العائلة الكبيرة. واقع مُهين هو مصير غالبيّة الأشخاص الذين لا تتماشى تصرفاتهم، كلامهم ولبسهم وطريقة مشيهم مع ما يعتبره الآخرون مقبولًا، وما تتوقّعه منّا عائلاتنا.
لهذا العنف أشكال ومسبّبات إضافية متعلقة بتأثير المبنى الاستعماري والعائلي في مجتمعنا والعلاقة بينهما. حيث يساهم الأول (الاحتلال والفصل العنصري) -بتقييد وتحديد قدرة الفرد على التنقّل بحرية واختيار المساحات المختلفة والآمنة للتعبير عن نفسه/ا- وهذا صحيح بالنسبة لفئات مختلفة من مجتمعنا. أمّا الثاني (السلطة الأُسَرِيّة والعائليّة) متعلّق بالمبنى الجمعيّ لعائلاتنا، والذي يضع الفرد في مكانة أقل من العائلة و”سمعتها” ويقلّص الفُرَص المتاحة للفرد لاستكشاف هوياته المختلفة. بالإضافة، هناك علاقة جدلية بين الاستعمار والمباني الاجتماعية، حيث يعزز الاول المباني الاجتماعية القائمة ويحد من مسارات التغيير والنمو داخل المجتمع. كذلك تزيد هذه العلاقة العنف داخل المجتمع تجاه افراد “مستضعفين” كالنساء، الاطفال، والمتحولين/ات، المثليين/ات، الخ.

القمع المخفيّ

بالإضافة إلى الخطاب الفيسبوكي والعنف المباشر في المدارس ومن طرف العائلات، هناك خطاب آخر أكثر خفية في الدوائر التي تدّعي “تقبّل” المثليّة، والذي لا يقلّ خطورة عن الأول. يحمل هذا الخطاب في طيّه شقين أساسيّيْن: الأول يفترض أنّ كل التعابير الجندرية (التصرفات، طريقة الكلام، المظهر) هي اختيار شخصيّ، بوِسع الفرد التحكّم به والسيطرة عليه. والشق الثاني – والذي قد ينتج عن الاول – يقترح على “المثليين/ات” فيما لو أرادوا التقبّل المجتمعي “تعديل” مظهرهم، بالأخصّ في الحيّز العام وعدم استفزاز المجتمع.

هذا الخطاب الذي يدافع عنه حلفاء وأصدقاء القضية باسم “البراغماتية”، يلقي بمسؤولية العنف مرة أخرى على الأفراد المعنَّفين جندريًّا، ولا يعترف بالامتيازات الجندرية (التي ليس بوسع كل شخص تبنّيها)، بواسطة نصائح قد تُسمع عندما ندقّق بها كمشابهة جدا لتلك التي تربط التحرش والاعتداءات الجنسية في لبس وتصرفات المرأة.

بالاضافة إلى ذلك، نرى في حلقات المثليين والمثليات -الذين هم نتاج نفس التنشئة الاجتماعية الجندرية- خطابًا مشابهًا يُعيد إقصاء هؤلاء الأفراد، وبالأخص المتحولين والمتحولات من مجموعاتنا، لدى تعريف تصرّفاتهم كمظاهر “مبالغ بها” و التي ستخرب “سمعتنا” و “نضالنا” و “يرجعونا لورا” انطلاقًا من مقولات مثل: “مش هاد اللي بدنا نأرجيه للمجتمع” او “فش حاجة اذا انا بنجذب للشباب انه اتصرف زي المرأة.”

هذا الخطاب يحاول التوفيق بين النضال المثلي والكويري المحلي، وبين الأدوار الجندرية المعيارية في المجتمع، ما قد يعرقل ويحد من تأثير نشاطنا وتحقيق اهدافه.

نظرة مستقبلية

حاولنا في هذا النص تجميع الآراء والافكار التي يتمّ طرحها في نقاشنا الأوليّ للعنف الجندري في الفيسبوك ومساحات اجتماعية اخرى، ووضعه في سياقه الأوسع، إلى جانب دعم الافراد المهاجَمين، وتفعيل نقاش عينيّ اكثر حول الاستراتيجيات الجديدة التي من الممكن تبنّيها- وتطوير تلك المتَّبَعة حاليا ضمن مجموعتنا، نسعى ايضا الى توسيع النقاش حول المسؤولية المجتمعية المشتركة لمواجهة ورفض العنف الجندري.

لكلّ منا دور في نبذ هذا العنف والتأثير على محيطنا الخاص. وذلك من خلال الرد، اذا كان في مقدورنا، على ما نسمعه بالشارع او المدارس، ونراه في بيوتنا، او نقرأه في الفيسبوك. أما في حالة عدم قدرتنا على المواجهة لأسباب عديدة، بامكاننا التوجه وطلب المساعدة من المسؤولين والمختصين/ات في المدارس، او توجيه الاشخاص المعنّفين الى اطر داعمة. الى جانب هذا، على مؤسسات المجتمع الاهلي – وخاصة الشبابية والنسوية والحقوقية – البدء في طرح مواضيع التعددية الجنسية والجندرية بصورة اوسع، وتبنيها كجزء من نشاطها وبشكل يتلائم مع عملها، وذلك لتطوير معلوماتها وقدراتها للاجابة على العنف الجندري من خلال نشاطها التوعوي والخدماتي.
ـــــــــــــ

* ناشط في مجموعه القوس للتعدديّة الجنسيّة والجندريّة في المجتمع الفلسطيني

** نُشِرَ المقال في صيغته القصيرة، في صحيفة “فصل المقال” عدد 17/10/2014، وفي صيغته الطويلة في موقع قديتا

photo
لا تفاجئنا كثيرًا ظاهرة العنف الجندري عبر صفحات الفيسبوك. إلا انها كأي موضوع يتم تداوله في وسائل التواصل الاجتماعي، يصل الى عدد اكبر من الناس ويكون له حيز اكبر من الاهتمام لما يحدث بشكل يومي في الشارع والبيت والمدرسة
العنف الجندري قد يكون مصير كل شابة وشاب لا يتماشون مع توقعات ومعايير المجتمع الجندرية -لأيّ سبب كان- من دون علاقة لميولهم/ن الجنسية والعاطفية أو ممارساتهم/ن الجنسية أو هويتهم/ن الجندرية.
لذلك فإنّ محاربة الذكورية في مجتمعنا (كقضيّة إنسانيّة نسوية) هو من أُسُس نضالنا المثليّ والكويري. وربطه مع كره النساء المتفشّي في المجتمع وقمع المرأة هو ضرورة أساسية لفهمنا ظاهرة العنف الجندري بشكل شمولي وعميق
لكلّ منا دور في نبذ هذا العنف والتأثير على محيطنا الخاص. وذلك من خلال الرد، اذا كان في مقدورنا، على ما نسمعه بالشارع او المدارس، ونراه في بيوتنا، او نقرأه في الفيسبوك. أما في حالة عدم قدرتنا على المواجهة لأسباب عديدة، بامكاننا التوجه وطلب المساعدة من المسؤولين والمختصين/ات في المدارس، او توجيه الاشخاص المعنّفين الى اطر داعمة