مقدمة
تتعالى، أو بالأحرى، تتهامس في الآونة الأخيرة أصوات بعض الناشطين والناشطات المثليين/ات العرب ضد “التيار” الذي يطرح خطاباً نقدياً يتعمق بأسئلة تدور حول استراتيجيات تنظّمنا كحركات مثلية/كويرية في العالم العربي وطبيعة علاقتنا مع “الغرب”. هو تيارٌ، أو بالأحرى خطابٌ، يطرح تساؤلات حول مدى هيمنة التجربة الغربية في التنظيم المثلي ومدى ملاءمة استراتيجياتنا لسياقنا الاجتماعي والثقافي والسياسي وللتحديات المستمرة في مهمة بناء جسور تصل بين فكرنا وممارساتنا على أرض الواقع. لقد قلّصت هذه الأصوات هذا الخطاب وحدّدته وحصرته في أنه منشغل بـ “محاربة الغرب” ليس أكثر! وقد علت هذه الأصوات أكثر عندما طرح بعض هذه الأفكار والتجارب ناشطون/ات من مجموعات معينة في مقالات تم نشرها، وباللغة العربية، في “بخصوص” وفي زاوية “كويريات” في موقع “قديتا”.
إنّ استثمارنا في كتابة تجاربنا التنظيمية والميدانية يهدف إلى مأسسة الخطاب الكويريّ المحلي وتطويره المستمر وذلك ليس من باب التثقيف وإنما لإدراكنا أهمية مشاركة التجارب المحلية للحث على فتح نقاش مستديم على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي. يعتمد هذا النقاش بالأساس على التأمل الذاتي (الشخصي والجماعي) وطرح الاختلافات في كيفية فهمنا للنضال المثلي والكويري، وبالأخصّ رؤيتنا وممارساتنا لدورنا كحركات مثلية وكويرية في مجتمعاتنا.
نطمح في هذه المقالة لعرض كيف أنّ تطور هذا الخطاب يأتي نتيجة لتجميع تجارب ميدانية مختلفة على مدى السنوات العشر الأخيرة، اعتمدت بالأساس على نقد ورفض موازين القوى والهيمنة أياً كانت: عرقية، جنسية، جندرية، اقتصادية أو طبقية (النسوية). كما يعتمد هذا الخطاب على تحليل محدوديات التنظيم المثلي المبني على مبدأ سياسة الهويات والشغف بالمساواة (الكويرية)، إلى جانب إصرارنا على تحديد -وبكلماتنا الخاصة- وإتاحة ما يُعرَض غالبًا كخطاب ضيق ومُساء التفسير. نحن نسعى أيضاً إلى معالجة بعض التحديات التي نواجهها في عملية التعبير عن قيمنا ووجهات النظر داخل النقاشات التي تدور حالياً حول استراتيجيات وأطر التنظيم على أساس النوع الاجتماعي/ الجنسانية.
إشكالية قطبية الخطاب المثلي
إنّ المجرى الذي اتخذه هذا “النقاش” في الآونة الأخيرة (ولم تستعمَل كلمة “حوار” عمداً) يصبّ في محاولات لتقسيم غير عضوي وغير أصيل لتيارين أساسيين: الأول، يتُّهَم بانه “يحارب الغرب” والآخر “يحارب الذين يحاربون الغرب”. هذا التقسيم مألوف وشائع بشكل مقلق لأنه يستغل الخدعة البنيوية الثنائية -ثنائية الجنس والجندر- التي نعمل جاهدين ككويريين (ومثليين أحياناً) على رفضها وتحدّيها. لذا، من المتوقع أن يهددنا هذا الخطابُ ومجموعاتنا المختلفة لأنه يدفعنا إلى التركيز على الأماكن والمساحات الحسّاسة التي تلقي الضوء على تذويتنا لهيمنة، وأحياناً تواطئنا، مع الخطاب الغربي (الرجاء الانتباه إلى أنّ المصطلح الأساسي في هذه الجملة هو “الهيمنة” وليس “الغرب”!).
بالإضافة إلى محاولة تحديد هذا الخطاب على أنه “ضد الغرب”، يحاول “التيار” الثاني تعريف نفسه عن طريق التيار الأول فقط؛ فبدلاً من الاستثمار في صقل نقاط جدل بطريقة جديدة تبتعد عن فخ نشر التصريحات مثل “إذا المثلية إشي غربي فالنسوية كمان إشي غربي”. على هذا النحو ينبثق شكل من أشكال المساومة المتردّدة الذي نادراً ما يحقق ويعرف نفسه بطريقة متكاملة ومدروسة تحلل السياق الذي تحدث به.
ويُفتح الباب للمغالطات من طرف هذه الأصوات عندما تسوّق خطابنا -الذي يقوم بتسليط الضوء على نقد استراتجيات وأهداف ضمن نماذج التنظيم المثلي- على أنه مُعادٍ للغرب. هذا الخلط مبني خطأً على الافتراض بأنّ نقد التنظيم المثلي هو نقد للغرب ككُلّ! فهل يا ترى لا ينتج “الغرب” إلاّ النماذج المثلية التي تتماشى مع التيار السّائد؟ ولكنّ هذه الأصوات تنسى، أو تتناسى، أنه من كنف “هذا الوحش” وُلدت مبادرات مثل “أودرىلوردبروجكت” و”كويريونللعدالةالاقتصادية” وغيرها من أصحاب التاريخ الطويل في خلق طرق بديلة جبّارة من لبّ التنظيم الكويري. ويدل هذا على أنّ هذه المغالطات ليست غير صحيحة في جوهرها، فقط، بل هي أيضاً ذات نتائج عكسية! فهي تدمج التنظيم المركزي والسائد على أنه التنظيم الغربي، وبالتالي، وعن غير قصد، تعزز الثنائية عن طريق تعريف الغرب كمهيمن، فقط. لذا، بعد البدء بهذا الخلط كافتراض أساسي، عادة تُتبَع مغالطات شكلية (ad hominem) خاطئة في محاولة منهم لفضح علاقات النقاد بالغرب من خلال لبسهم ولغة نقاشهم وحتى نسويّتهم!
النسوية والنشاط المثلي
لطالما دفعت النسوية، تاريخياً وباستمرار، نحو التأقلم مع خصوصيات كلّ الصراعات الفردية والجماعية. فقد مرت الحركات النسوية بكثير من التغيرات في ألوانها وأشكالها وطرقها وأسمائها ومعانيها ودلالاتها حول العالم وعبر تاريخها. صُمّمت النسوية وبإصرار كوسيلة للتحليل تعتبر حساسة للغاية وبشكل خاص لقضايا النوع الاجتماعي ولسياسات المكان (politics of location). ومع ذلك، فقد أنتجت النسوية، وفي سياقات كثيرة، درجات من الامتيازات ضمن التصنيفات المختلفة للهوية (العرقية والإثنية والاقتصادية والطائفية). وكما هو حال الناشطين لحقوق المثليين والمثليات، تقع النسويات أحياناً في فخ سياسة الهوية حين يُرَوّجن لنماذج تنظيم وقيم وأنماط حياة على أنها عالمية وملائمة لجميع النساء حول العالم. إنّ الحركة النسوية، في أهدافها وممارساتها المثالية، تسعى إلى عدم فرض أطر وقيم، بل إلى استمرارية وجود المعايير البديلة النضالية.
“يوم المراة العالمي” هو مثال جيد لهذا الهدف النسوي. يوم المرأة العالمي، وبالرغم من تركيزه على النساء ودعوته إلى يوم عالمي من التحرك، يبقى أيضاً قابلاً “للتكيف مع” و”احتواء” خصوصيات صراعات النساء في الجغرافيات المختلفة. فهو يحدد وجود صراع ولكنه لا يحدد نوعه أو استراتيجياته لأيّ امرأة. على عكس ذلك، فإنّ النشاط المثلي، في كل أشكاله الظاهرة، يعزز مفاهيم وثوابت موحدة تتركب منها الثقافة والهوية والنشاط المثلي. ومحور رهاب المثلية، الإشهار عن الميول الجنسية والعيش في العلن واستراتيجيات الظهور ومفهوم الفخر، يستمر بقولبة المجتمعات المثلية وقيمها ومطالبها حول العالم.
على سبيل المثال: اليوم العالمي لمكافحة رهاب المثلية الجنسية هو حدث عام، يضع الصّراع المثلي في حالة مواجهة وقتال مع ما يُسمّى “رهاب المثلية”. وهذا الشيء واضح من عنوان هذا الحدث الذي يعرّف الصراع المثلي للعامة على أنه صراع ضدّ “رهاب المثلية” فقط. فخطابنا ضدّ رهاب المثلية الذي غالباً ما يأتي كردة فعل، يُعزّز حالة الكره والإقصاء عينها، ويعيد خلق الحالة الثنائية بين “الفخر” و”الخزي” (حيث الفخر هو في المثلية الجنسية والخزي هو في رهاب المثلية والجهل). بدلاً من أن نتمهل قليلاً ونفكر في الاستراتيجيات والأساليب التي نستعملها رداً على جذور رهاب المثلية في مجتمعاتنا وأسسه أو رداً على وجود هذا المصطلح أساساً، نقوم بتحضير حدث عام غير قادر على معالجة أو مقاربة المفهوم السياسي والاجتماعي الأوسع لرهاب المثلية الجنسية التي تترسخ جذورها في المؤسسات والمجتمعات الذكورية[1].
يصبّ النشاط المثلي تركيزه على الوسائل والطرق التي يستعملها النظام الاجتماعي العام لإقصائنا نحن المثليين، وفقط المثليين، بدلاً من النظر في السبل التي يعمل بها نظام الامتيازات الاجتماعية على قمع أيّ مقاومة في مجتمعاتنا. فعندما تكون الميول الجنسية منصة للنضال الفردي أو الجماعي، لا تتوفر المساحة لفحص الامتيازات التي تأتي مع “كوني رجلاً” في مجتمعات تقليدية وضمن الأطر القانونية المجندرة على سبيل المثال. بدلاً من تحديد المعايير السائدة التي أنتِجت تاريخياً للإقصاء على أساس “فئويّ” (أي “الفئة التي تحدد الهوية[2]). نحن نستثمر في أخذ نضالنا المهمَّش كمثليين إلى المركز، وترك الآخرين ليفعلوا الشيء نفسه بالنسبة لنضالاتهم. نحن ننسى أنّ “تلك الصراعات الأخرى” يمكنها أن تكون صراعاتنا أيضاً؛ فنضالنا أصبح قضية تمثيل وامتياز. نحن أيضاً نريد الحصول على هذه الامتيازات. نحن نساهم في بناء نفس الهرمية التي تترك المتحوّلين وغير المعرفات ومزدوجي الميول الجنسية وثنائيات الجنس وذوي الاحتياجات الخاصة والمهاجرات والملوّنين والأمّيات وكثيرين غيرهم، في القاع، غير جديرين بالحقوق. بدلاً من النقد المعياري، في جميع أشكاله، نحن نحاول معتذرين أن نثبت أننا، نحن المثليين والمثليات، طبيعيين وعاديات جداً. تقبلونا! إدعمونا! فنحن، للأسف، نطلب التسامح والتقبل للمثليين بدلاً من العمل من أجل العدالة والتحرّر من النظام الأبوي والغيرية البحتة (heteronormativity).
“تتعرض المثليات للضرب في نقس الوقت الذي تتحدثون فيه عن النظريات”
لعلّ الأكثر إحباطاً تصريحات مثل أنّ “المثليين يزجّون في السجون في الوقت الذي تتحدثون فيه عن النظريات” أو “لأنك ناشطة تحظين بامتيازات اجتماعية”، وهي غالباً مقولات يُرمى بها كل من لا يستخدم إطارَ ومفهومَ ولغة الضحية لوصف نضاله/ها أو النضال المثلي بشكل عام. يهمش خطابنا ويتم إسكاتنا بشكل فوري، عن طريق إقصاء تفسيراتنا على أنها ليست ذات صلة “بالعالم الحقيقي” الذي يعاني فيه الضحايا في الوقت الذي نحن فيه مشغولون بالتساؤل حول مفهوم الضحية لتعزيز نضالنا الفردي والجماعي.
الأذى حقيقي، ونعم، هو موجود وقائم في مجتمعاتنا. نحن نعرف؛ المتحدثون الذين يسمون أصحاب الامتيازات، من المحتمل أنهم مروا أيضاً بتجارب مؤلمة ومؤذية في مراحل من حيواتهم (وهذه هي الحال عادةً). ومع ذلك، لحظة يبدأ المتحدث بالتشكيك في الاستخدام الاستراتيجي لدور “الضحية” كبوابة للحديث عن الحقوق الجنسية والجندرية، يفقد مصداقيته ويتم إسكاته ويتهَم بأنّ امتيازاته الاجتماعية تمنعه من فهم صدمات الناس وألمهم. الإشارة إلى وجود مجموعة توصف بأنها تحظى بامتيازات اجتماعية وفئة أخرى لا تحظى بنفس الامتيازات تؤدي إلى تعزيز ثنائية مصطنعة وذات نتائج عكسية وإلى خلق الانشقاقات. إنّ الطريقة للتعامل مع الامتيازات الاجتماعية هي اختبارها باستمرار في كل وضع نتواجد فيه.
هناك فرق ما بين الإدراك واستعادة الإحساس السليم بالذات (ومع هذه الصيرورة يأتي الشعور بقيمة المسؤولية وملكية عملية الشفاء وعلاقة الفرد مع الذكريات والأفكار، والمشاعر، والصدمات، والصراعات)، وبين الترسيخ الجماعي لتجارب الصدمة في اجترار تجارب الماضي.
على سبيل المثال، سعت ميم عن طريق “بريد مستعجل” لأن تحكي قصص أولئك الذين “ممارساتهن الجنسية وجنسانياتهن قد سخر منها، ورفضت، ونفيت، وظلمت، وشوهت، وأجبرت على الاختباء” (بريد مستعجل 1). هل تساءلنا كيف أنّ معظم هذه القصص، وحتى الأكثر إيلاماً ومأساوية، ساعدت على الدعم والتمكين؟ ذلك لأنه طلب منهن توصيل الأمل والحبّ والمغفرة والتغلب على المصاعب. إنه نموذج قصصي نسوي قوي يعترف بالصدمات والأذية ويحتوي عليهما، من دون توظيف سلبي لإطار الضحية بشكل سياسي لتعزيز النضال الفردي والجماعي.
عند التساؤل حول إطار الضحية كشكل من أشكال النضال، نحن لا نقول “للضحايا” “اصمتوا وتغلبوا على وضعكم” -كما يندفع البعض للتفسير- لكننا بدلاً من ذلك، نطلب التصدي لتعزيز عقلية الضحية الذي يمنع الكثير منا من تجاوز حالات الاعتداء المذكورة أعلاه. وهو إطار، في ممارساته الأكثر نجاحاً، لا يزال يعزز ثقافة الشفقة والتمرغ والعجز، بدلاً من التضامن والدعم والتمكين الذاتي.
من التفكيك الى إعادة الإنتاج
من جهة أخرى، يركّز خطابنا على أهمية عدم تبني كل ما هو موجود ومتاح من دون فحص ملاءمته لواقعنا ولتحقيق أهدافنا مع التشديد على ضرورة إنتاج وإعادة إنتاج تجارب محلية تفسح بدورها مجالاً لزعزعة موازين القوى وتحدي ما هو سائد محلياً وعالمياً (التشديد على الإنتاج المحلي وليس على المحاربة، مع أننا لا نرى النقد كحرب!). وصمة “محاربة الغرب” التي يُتهم بها خطابنا قد تكون مقبولة عندما ينحصر النقاش بتفكيك الهيمنة المثلية الغربية (حتى إن كان تحليلاً وتفكيكاً راديكالياً وجذرياً من الدرجة الأولى) ولكن هذا ليس جوهر خطابنا! فخطابنا يطرح تجارب فعلية لمجموعات مختلفة طورت خطاباً خاصا بها، خطاباً مستوحى من الواقع من خلال طرح نقاط جدل متماسكة ذات ثوابت وأرضية متينة (فهنالك التفكيك ولكن أهم جوانبه هو إعادة البناء/الإنتاج) تعزز عملنا.
دعونا نأخذ كمثل لإعادة الإنتاج المحلي الفجوة الاستراتيجية التي عبأتها مجموعة “كويريون فلسطينيون من أجل حملة المقاطعة” (PQBDS)، وهي مجموعة تشكلت لتشجيع ودعم دعوة المجتمع المدني الفلسطيني من أجل المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات ضد إسرائيل، وقد بدأت في تموز/يوليو 2005. حددت PQBDS النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي والاستيطان والفصل العنصري كنضالها الرئيسي، لأنّ إسرائيل تستخدم بانتظام حقوق المثليين والحرية لغسل انتهاكاتها لحقوق الإنسان والقانون الدولي. وقد رأت PQBDS أهمية هائلة في قيادة المبادرة المحلية (والدولية) التي تواجه سياسة “الغسيل الوردي” وتعزز حملة المقاطعة. واحدة من خصائص قوة PQBDS قدرتها على ربط النضال من أجل التعددية الجنسية والجندرية مع النضال الفلسطيني من أجل الحرية والعدالة.
هذا الخطاب ليس بجديد اذ إنّ حضوره وتطوره كانا محدودين في العالم الأكاديمي، الغريب والبعيد والآمن. التجديد هو التطرق لهذه القضايا من التجربة الميدانية لتعزيز الصلة الحتمية بين النظرية والتطبيق والعمل وبين الفكرة والممارسة. يكمن تحدي طرح هذا الخطاب في الحقل المثلي والكويري، على الصعيد المحلي والإقليمي وحتى العالمي، في أخذ ضيق حقل النشاط الكويري العربي بشكل خاص في الاعتبار. بإمكان حقل النشاط الكويري/المثلي العربي أن يكون أرضاً خصبة تمتزج فيها الحساسيات الشخصية والمصالح السياسية والتنافس بين المجموعات المختلفة، مع أنّ هذه المعطيات تعتبَر طبيعية لأيّ حركة أو مجموعة. تكمن خطورة هذه الديناميكيات والتقسيمات في قدرتها على تقليص النقاش لينحصر بين أقطاب “يرأسها” أشخاص معينون يصبحون فيما بعد “الممثل” أو “الناطق الرسمي” الوحيد لهذه التيارات! فرض هذا التقطبات – غرب/شرق، المغرب/المشرق، نسوية/مثلية، الخ، والتي أصبحت بدورها شخصية أيضاً، يفرض على الناشطين الآخرين اختيار “ولائهم” لأيٍّ من التيارات/الأشخاص/المجموعات، ويمنعهم من السعي في سيرورة استحواذ شخصية لاستكشاف هذه القضايا والأسئلة الجذرية من الناحية العملية والنظرية على حد سواء.
لعلّ أعقد المشاكل وأكثرها حساسية عند أيّ فرصة لمشاركة التجارب والأفكار بين بعض المجموعات وبين الناشطين، سواءً أكان ذلك عن طريق مقالات أو لقاءات أو ورشات في مؤتمرات مختلفة، هو السعي الدائم إلى تمثيل كلّ الهويات والميول الجنسانية والجندرية والحث على الأخذ بالاعتبار كل الأراء و”التيارات” (قبل ما حدا ياخذ على خاطره!). ففي معظم الأحيان، ليس هذا هو الهدف الأساسي؛ إذ برأينا هناك فرق شاسع بين السعي إلى التمثيل والشمولية وبين قدرتنا كناشطين على احتواء التعقيدات البنيوية لتركيبة مجتمعنا من جهة، وحساسية نضالنا وانشغالنا في القضايا اليومية ومواجهاتنا المستمرة للتغييرات في رؤيتنا والبيئة التي نعمل من خلالها من جهة أخرى. كما أنّ الهدف ليس استقطاب أشخاص يمثلون الشرائح المختلفة في المجتمع الكويري والمثلي، حيث المهمة أسهل، بل تذويت نقاط التقاطع بين النضال المثلي ونضال الترانس، بين النسوية والمثلية، بين النضال ضد الاحتلال والنضال الجنسي لدى الناشطين وبالأخص القيادة (ونعتذر على الهرمية!). نحن نعترف أنّ هناك أهمية بالغة للانتماء إلى الحركة المثلية العربية والمشاركة والتواصل مع ناشطين وناشطات من شتى المجموعات والخلفيات. فهذا التواصل يلبي حاجات مختلفة وضرورية حيث القاسم المشترك الأساسي (والوحيد أحياناً) هو كوننا مثليين وكويريات وترانس.
ولكن الأهم هو استثمارنا الاستراتيجي وطويل المدى الذي يجب أن يصبّ في بناء تحالفات مع مجموعات وناشطين يعتمدون في تنظيمهم إيديولوجيات وأرضية من المفاهيم والخلفية الفكرية المشتركة، حيث لا حاجة للتفسير المتكرّر لأهمية النسوية في نضالنا الجنسي والجندري، أو شرح مدى خطورة “تسويق” نضالنا على أنه خاص وفريد من نوعه، أو لماذا لا يمكننا التعاون مع مثليين صهيونيين لمجرد أنهم مثليون وأمور أخرى نعتبرها أساسية في تنظيمنا المستمرّ لبناء حركة تغيير اجتماعي مستديمة ودائمة التطور وقابلة للتغيير عند الحاجة.
تلخيص
كتب هذا النصّ كمحاولة متواضعة لتحليل الديناميكية (أو حتى خطاب)، التي لحسن الحظ ما زالت في بدايتها، والتي قد تأخذ مساراً ضاراً لتطوّر أيّ حركة مثلية عربية في اتجاه يختزل المعادلة لأقطاب وأشخاص ليس باستطاعتهم استيعاب كل جوانب القضية وتركيبة تجاربنا التنظيمية. هذه المحاولة مستوحاة من تجربتنا الشخصية كقسم من هذه الديناميكية ونأمل أن ينجح تفكيكها من الداخل وكجزء فعال منها في الرجوع بنا إلى جوهر النقاش وليس الوقوف عند شكلياته فقط. تحويل النقاش الحالي إلى حوار متبادل ومُثر لا يمكن أن يحدث إلاّ عندما تتحمل المجموعات والناشطون مسؤولية مشتركة للمساهمة في بناء مساحات يمكنها احتواء خطاب يعكس واقعنا ويجسّد التحديات الكثيرة التي نواجهها وليس دفعها وتعريفها كحرب وتيارات وأحزاب. من ناحيتنا، نأخذ على عاتقنا مسؤولية الحذر من الوقوع في فخ السخرية والتشاؤم الذي نُتّهَم به أحياناً، وعن صدق، والذي يساهم أيضاً في حصر النقاش ضمن أقطاب غالباً ما لا تمثل الواقع.
على امتداد أربعة أقسام هذا المقال، شرعنا في استكشاف وضع الخطاب الناشئ الذي بني على أساس نتائج تجارب مختلفة من الحقل. هدفنا أيضاً التصدّي لبعض التحديات التي نواجهها عند التعبير عن القيود الموجودة في استراتجيات التنظيم المثلي على أساس الهوية. لسوء الحظ، هناك محاولة لكتمان خطابنا هذا ورفضه بطرق عديدة، وقد ناقشنا العديد منها مطوّلاً في المقاطع أعلاه. تبعاً لذلك، يبدو أنّ خيطاً مشتركاً يمرّ عبر هيمنة محور التنظيم المثلي (رهاب المثلية، والعيش في العلن، والظهور، والفخر) ورفض احتمالات استكشاف طرق بديلة تتعامل مع الجنسانية والجندر في مجتمعاتنا. النقطة الحاسمة هنا هي أننا سوف نواصل الاستثمار في بناء تحالفات مع الجماعات المذكورة آنفاً والنشطاء الذين، بكل بساطة، يدعمون التفكير النقدي، ويدركون أهمية التحليلات النسوية والكويرية والقائمة على الحاجة إلى إنتاج الأطر المحلية من النشاط.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(نشرت المقالة أيضاً باللغة الإنجليزية في مجلة بخصوص)
[1] مثال على ذلك، اقرا مقالة حنين معيكي وسامي الشمالي حول “اليوم العالمي لمكافحة رهاب المثلية : بين التجربة الغربية وواقع المجتمعات المثلية“.
[2] على أساس العرق او الاثنية أو الطبقة أو الجندر أو الجنسانية أو المذهب أو المواطنة، الخ.