إنّ أشدّ ما يعبر عما يدور في قلب أية حركة نضالية اجتماعية هو ما يصدر عنها من أدبيات: نصوص ورواية، وهذا يقذفني مباشرة إلى موضوع الخطاب المثلي الفلسطيني المتمثل بما يخط منه. فأنا أشرف وأتابع منذ صيف 2010 وفي إطار هذه الزاوية، على الكثير ممّا تنتجه هذه الحركة الفريدة والنامية التي تحوي قدرًا كبيرًا من الأصالة الخاصة بها بسبب الإحتلال أولا، وانسداد الأفق العربي عليها والارتطام اليومي والتداخل مع العامل الإسرائيلي؛ وثانيا كونها حركة نابعة عن مجتمع عربي تقليدي وذكوري كأيّ مجتمع في شرق المتوسط تحديدًا.
لقد وجد الهوموفوبيون في المجتمعات العربية المحيطة بنا حججًا مختلفة لإدانة المثلية، حيث ينفي القاسم المشترك الأعظم وجود حالة مثلية عند الذات العربية ويرجع حيثيات اختراق المثلية “لغشاء بكارة” المجتمعات العربية، إلى التأثر بالغرب ونمط حياته وإقحام “موبقات” الموديل الغربي للعيش. لكن، ومن خلال متابعتي للأدبيات الواردة إلينا من المغرب أو لبنان أو مصر، والتي سعدتُ أيضًا بتحرير بعضها، يُلاحظ أنّ أصحاب القلم وبتفاوت مستوى نصوصهم، لا يوفرون جهدًا لمهاجمة الجّهات التي تنتج رهاب المثلية في مجتمعاتهم وتعزّزها كما أنهم وبتعميم لا بد منه يسخرون في معظم الأحيان من مقوّمات هويتهم الوطنية والإقليمية بشكلها الحالي، سعيًا لإعادة تشكيلها إيجابًا، مهاجمين نظم الحكم الأبوية القامعة.. والمؤسسة الدينية والإقصائيين على أشكالهم ومللهم.
في حين تتشابه البنى المجتمعية والدينية بين فلسطين وما حولها، إلا أنّ الاتهامات مختلفة كليا ومُخيفة إلى نحوٍ كبيرٍ؛ فالاتهام ضد مثليي فلسطين يقول: إنّ المثلية في فلسطين على شقيْها (الداخل والضفة والقطاع) هي بدعة صهيونية، وإنّ المثليين الفلسطينيين يروجون للفكر الصهيوني وهم عملاء للإحتلال يسعون لتبييض صورة إسرائيل بصفتها حامية لحقوق الأفراد. ويضع هذا الإتهام المتهم في حالة دفاعية فورية لا وقفة فيها، حالة يسعى من خلالها لإثبات وطنيته بأيّ ثمن، من دون أدنى محاولة لتفكيك الهوية الوطنية الجاهزة إلى عواملها وإعادة تشكيلها لتصبح أكثر انفتاحًا وتسامحًا مع مكوّنات طيفها. أما الحالة الأقل عنفا من حالات الرهاب المثلي فهي تلك التي يقول مُدّعوها: المثلية والكويرية بمضمونهما الشامل أكبر دخيلين على مجتمعنا وهما عبارة عن نضال مفتعل؛ فالنضال الحقيقي هو في سبيل تحرّر الأرض والشعب وليس الأفراد. بمعنى أنه لا وقت هناك للتعاطي أصلا مع مطالب الأفراد للتحرر المجتمعي من ثقل الكذبة الأخلاقية. وهنا تختلط الأوراق بشكل عبثي بين أهمية النضال والصراخ ضد إقصاء المثليين في المجتمع الفلسطيني وبين الحاجة الفورية والملحة والتلقائية لتقديم إثباتات الوطنية والإخلاص للثوابت وذلك لمكافحة الأثر الكبير لحجة التعاون مع الإسرائيلي في سبيل التحرر.
وقد تصل شهادات الإثبات هذه إلى حالات من الرومانسية الوطنية الساذجة والقديمة، وأشكال الابتذال في عشق الهوية الفلسطينية قد تثير الدهشة ثم البسمة على وجه القارئ الذي يحمل قدرا ما من الوعي للإشكالية. كما يحطم خلط الأوراق هذا والاحتفاء بالهوية الوطنية كجزء من دحض التهم، يحطم هذا النمط الخطابَ ويكسر إيقاع النصّ ويشوّه القدرة على التفسير، وبالتالي الإقناع وكسب التأييد. فلا أحد يعتقد هنا أنه يتوجّب على المثليّ أن يكون محيّدًا سياسيًا ووطنيًا وبعيدًا عن هموم شعبه. وأنا أعرف الكثيرين ممّن ينشرون في هذه الزاوية وهم في ذات الوقت ناشطين سياسيًا في أكثر الأجسام دفاعًا عن الحقوق الفلسطينية.
في عصر تتميز فيه الكتابة والإبداع إجمالا بالتمرّد على الهوية الوطنية المفروضة من النظم الأبوية العسكرية، من خلال محاولة صياغتها من جديد بقدر أقل من الشوفينية، نجد أنّ على الكتابة الجديدة في فلسطين وتحديدًا تلك التي تنبش في مواضيع الجنسانية والهُويّات الجنسية والجندرية أن تتحرر من الشعور بالذنب ومن حاجتها الدائمة بالردّ على خطاب التخوين من خلال التقوقع في داخل هوية وطنية جاهزة وسريعة الذوبان. فللأسف، لا زلنا نعيش في عصر الإقصائيين وعصر: من لا يشبهنا.. من يختلف عنا… فهو خائن. وبرأيي أنّ تدمير هذه المعادلة هو جزء أساسي إذا لم يكن الجزء الأساسي في الخطاب المثلي الفلسطيني المفترض وغيره من المشاريع المجتمعية الساعية لتحرير الفرد وتكريس خياراته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
المقال نشر لأول مره في موقع قديتا