نجد أنفسنا مرّة أخرى كأفراد وكمؤسسة نعيش وننشط في حقل التعدديّة الجنسيّة والجندريّة أمام موجة من العنف والتحريض والتشّويه والتهّديد المجتمعيّ باسم "الدين" و"العادات والتقاليد"، سبقها ما قد لا يُحصى من موجات عنف متكرّرة خلال السنوات الأخيرة. بالرغم من اختلاف شكل وحدّة العنف في كل مرّة، نرى بأن هذه الموجة مُستجدّة بشكل خاص من ناحية أسلوبها وأدواتها التي تطول أفراد بعينهم يعملون في الحقل السياسي والثقافي الفلسطيني، وتستهدف مؤسسات لمجرّد استضافتها ما يتم اعتباره مشروع يتناول "المثليّة" و"الكويريّة". على سبيل المثال لا الحصر فقد تم خلال الأيام الأخيرة وحدها التهجّم على عدة أفراد ومؤسستيّن ثقافيّتين (جمعيةّ تشرين في الطيّبة ومؤسّسة المستودع في رام الله) وإلغاء العروض الفنية عنوةً.
ليس هذا العنف غريبًا علينا في ظلّ السلطة الأبويّة وحكم المؤسسات المجتمعية القامعة، إلّا أن تسارعه وكثافته وتقاطعه مع أوّجه أخرى للعنف الجندري المتفشي الموجّه ضد النساء والاستعماري الموجّه إلينا كفلسطينيّين، يضعنا في دائرة من الأسف والغضب والخيبة بدرجة إقصائه وألمه من أبناء شعبنا. لكنّه في الوقت نفسه يزيدنا إصرارًا على المواجهة والاستمرار في العمل نحو مجتمع آمن وغني بتنوّعه واختلافاته المشروعة وعلى رأسها التعددية الجنسيّة والجندريّة.
نحن في القوس بنات وأبناء هذا المجتمع، نعرف ونقدّر ما فيه من تنوّع فكريّ وأيديولوجيّ، ونعمل على فتح نقاش مجتمعيّ واسع حول التعدديّة الجنسيّة والجندريّة بوسائل مختلفة، إلّا أنّنا نشدّد على رفضنا أن يتحوّل أي نقاش الى هجمات إلغاء وعنف وإقصاء ذكوريّ لا تخدم أيَّ فكرة أو عقيدة من قِبَلِ مَن يُنصّب نفسَه وَصيًّا على فلسطين وثقافتها وقِيَمها. من هنا نؤكّد على أحقيّة تواجد الأفراد والمجموعات جميعها في الحيّز العامّ والمساحات السياسيّة والاجتماعيّة والثقافية المختلفة في كافّة فلسطين، لا سيما القوس ونشطائها من المثليين والعابرين جندريًا، وأنّ أيّ نقاش أو حوار مجتمعيّ يجب أن ينطلقَ من نقطة الأساس هذه. إذ أنّه من غير المقبول بأيّ شكل إقصاءنا وتخويننا وشيطنتنا واتهامنا بالعمالة لمجرد كوننا نعيش تجارب جنسية وجندرية مختلفة عن السائد أو كوننا نتناول القضايا المتعلقة بهذا المجال. سئمنا الخطابات الديماغوجيّة والشعبويّة المهترئة التي تستخدم كروت "التمويل الأجنبي والأجندات الخارجيّة"! سئمنا هذه الاتهامات الباطلة التي لا أساس لها من المعرفة والمصداقيّة والتي تهدف إلى حرف النقاش عن الموضوع الجوّهري ألا وهو العنف. لذلك لن ننجرّ لدفعنا للردّ عليها ولـ "إثبات وطنيّتنا"!
كما أنّه من غير المقبول التنصّل الملحوظ من قبل العديد من الجهات والحراكات الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة. نحن نعلم من خلال تجربتنا الطويلة أنّ عمل المؤسّسات على مشاريع تخصّ التعدّديّة الجنسيّة والجندريّة أو حتّى توفير أيّ مساحة لها، يضعها في دوائر العنف والتحريض، الأمر الّذي بدوره يعزّز دائرة العنف والإقصاء لأشخاص يعيشون توجّهات جنسيّة وجندريّة مختلفة. لكنّ قِلّة الدّعم الشعبيّ المؤسّساتيّ الّذي لاحظناه خاصة مع بداية هذه الموجة أثناء حظر المشاريع الفنيّة والذي قد يُقابَل بالصّمت إلّا من أصوات قليلة، يجعلنا نفكّر بأنّ هذا الصّمت يقود إلى إعادة إنتاج العنف والإقصاء والتجاوز من قِبَل المؤسّسات نفسها والتي عادة ما ترفض القمع والمنع والرقابة، وبأن ثمّة أسباب ودوافع لهذا الصمت يجب علينا في المرحلة الراهنة فهمها لكي نكون قادرين على توسيع فهمنا لآفة العنف المجتمعي المسّتجد هذا ومواجهته ومعالجته كحراك فاعل.
بقدر ما تقلقنا هذه الموجة من العنف الشرس ضدنا وضد أصدقاءنا ومناصرينا، بقدر ما يُثلج صدرنا هذا الكم من الحب والتضامن والأصوات الحُرة التي تنبذ العنف والتي تصلنا من قبل أفراد ومجموعات كويرية وأصدقاء ومناصرين وشركاء في الحراك. نؤكّد ان هذه الأصوات لهي أكبر إثبات بأنّنا لسنا أمام قضية تخص المثليين/ات والعابرات/ين فقط، انما هي قضية مجتمعنا ككلّ، تمس وتُغضب الأحرار من أبناء وبنات شعبنا وكل من يخشى العنف الذي قد يتفشى أكثر إذا لم نتصدى له جميعاً. كما ونؤكد على ثقتنا بأن مجتمعنا قادر على الحوار وأخذ دور هامّ لمعالجة القضية.
تعلّمنا في القوس في السنوات الأخيرة وبعد هجمات وملاحقة رسميّة وغير رسميّة أنّ إسناد بعضنا البعض كمجتمع ومؤسّسات ضدّ أنظمة القمع، هو الأساس الّذي يضمن استمرار مشروعنا التحرّريّ وبقائنا وعيشنا بكلّ تنوّعنا كجزءًا من المجتمع الفلسطيني.
سنحمي بعضنا البعض ونوفّر الدعم لأنفسنا بعيدًا عن المؤسسات ذات المباني الأبويّة والذكوريّة القامعة. وسنستمرّ في فعلنا الثوري، والذي إن لم نجني ثماره كلها الآن سنجنيها على المدى البعيد.
دعونا لا ننتظر موجة العنف القادمة ولنتحمّل جميعاً أفراداً ومؤسسات المسؤولية بمواجهة العنف والتصدّي له بوضوح واتّخاذ خطوات تجاه ضمان تنوّع مشهدنا الفلسطينيّ الغنيّ باختلافاته المشروعة ضمن حقّ الإنسان أوّلًا بالعيش الكريم.