عُقِدَت اليوم الخميس ندوة رقميّة للأكاديمي الفلسطيني سائد عطشان من تنظيم ودعوة باحثة إسرائيليّة بعنوان "تفكيك الخطاب الاستعماري لنظرية الكوير: نحو مقاومة فلسطينية إسرائيلية مشتركة". يأتي في وصف الندوة أنّها ستشارك "واقع وإشكاليات المؤسسات الفلسطينيّة الكويريّة التي تعمل في فلسطين وإسرائيل"، وتأتي بعد حلقة قراءة عُقِدَت الأسبوع الماضي لأجزاء من كتاب جديد لسائد عطشان من تنسيق الباحثة الإسرائيليّة نفسها.
دعوة الندوة على موقع فيسبوك مكتوبة باللّغتين العبريّة والإنجليزيّة مع جملة واحدة باللغة العربيّة، كما أنها مقتضبة وضبابيّة مع التأكيد على أنّها "لا تخضع لرعاية أي جهة ولا صلة لها بأي مؤسسة"، وهو ما قد يُعطي مهربًا أو تجنبًا لاعتبارها تطبيع وفق المعايير التي حددتها حركة المقاطعة فلسطينيًا.
سبق هذه الندوة فعاليّات تطبيعيّة أخرى باشتراك سائد عطشان في سياقات مختلفة على مرّ السنوات الماضية، تعاملنا معها في القوس من خلال التوجّه للجهات المسؤولة عن حملات المقاطعة أو لعطشان نفسه في السنوات المبكرة لنشاطه لتبيان ضررها، إلا أننا تلقينا رفض وتجاهل دائمًا. أثار الإعلان عن الندوة الأخيرة من قبل الباحثة الإسرائيليّة استنكارًا وغضبًا من نشطاء القوس، كما توجّه لنا الكثير من الأصدقاء والحلفاء داخل فلسطين وخارجها بالحيرة والدهشة.
تضعنا مواجهة حالات مشابهة في موقف لا نحبّذه ونأسف لاضطرارنا شرحه أصلًا، فمع تقديرنا للتعددية السياسية والفكرية الضرورية في أي عمل سياسي، إلا أنّ المساهمة في التطبيع والغسيل الوردي لا تقع في فلك التعددية والخيارات الشخصيّة، فهي مساهمة في مشاريع سياسيّة تضرّ بنا كأشخاص نعيش تجارب جنسية وجندرية مختلفة تحت الاستعمار وبحراكنا وبمجتمعنا. نوضّح في هذه الأسطر خطورة الاشتراك في هذه الندوة والنهج الفكري القائم عليه؛ أولًا كنوع من المساءلة والمواجهة للأشخاص المتسببين في هذا الضرر، وثانيًا كفرصة تعلّمية لتوسيع النقاش والتفكير في سياسات التطبيع والغسيل الوردي وأثرها علينا فلسطينيًا.
طوّرت القوس مع نشطاء وحراكات مختلفة في العقد الأخير مفهوم "الغسيل الوردي" ووسّعنا النقاش حوله من خلال إنتاجات معرفيّة مختلفة باللغتين العربيّة والإنجليزيّة كان آخرها ورقة تحليل سياسي تموضع الغسيل الوردي كجزء من العنف الاستعماري الأكبر. مع تطوّر مفهوم الغسيل الوردي في السنوات الأخيرة بتنا ندرك أنّه ليس مجرّد أداة دعاية للترويج لكيان الاستعمار باستخدام "حقوق المثليين"، بل هو مبنى استعماري عنيف قد يشترك فيه جهات مختلفة مثل مؤسسات الدولة وشركات خاصّة وحتّى أشخاص ومؤسسات من المجتمع الفلسطيني وهو ما يظهر بشكل واضح في الاشتراك في الندوة التطبيعية المذكورة والنهج السياسي المستمرّ للشخص نفسه.
من أبرز ما تسعى إليه سياسات الغسيل الوردي هو تشويه العلاقة الاستعماريّة القائمة بجوهرها على العنف والاستعلاء، حيث تحوّل الإسرائيلي المستعمِر إلى "منقذ" أو إلى "شريك في المقاومة" كما هو مطروح في الندوة. يساهم طرح الندوة إمكانيّة وجود "مقاومة إسرائيليّة فلسطينية مشتركة" (وهو الطرح ذاته في كتاب عطشان) في تطبيع المنظومة الاستعماريّة بتطبيع العلاقة مع إسرائيليين، وخلق وهم لا يفيد بشيء سوى تعزيز علاقات القوّة ومنظومة الامتيازات القائمة.
كما أنه من أكثر ما تعتمد عليه سياسات الغسيل الوردي استخدام مصطلحات ومفاهيم ترتبط بالتعددية الجنسية والجندرية مثل "الحماية" و"حقوق المثليين" للتغطية على جوهرها العنيف. أما المحاضرة المذكورة فأخذت غسل المصطلحات هذا مستوى آخر أكثر خطورةً باعتمادها على عالم من المفاهيم النقديّة والتحررية مثل "تفكيك الاستعمار" و"المقاومة" و"الكويريّة" وما تفعله في الواقع هو تفريغها من معناها وتجريدها من قيمتها السياسيّة النضاليّة الحقّة بوضعها في سياق تطبيعي.
يقوم طرح الندوة الذي يصبو نحو "مقاومة فلسطينيّة إسرائيليّة مشتركة" بأكمله على رؤية هويّاتيّة ضيّقة أبعد ما تكون عن الفكر الكويري والنظريّة الكويريّة التي يستخدمها عطشان جزافًا، حيث يساوي ما بين التجربة الفلسطينية والتجربة الإسرائيليّة متغاضيًا عن جميع الفروق في حيثيّات وتشكّل التجربة التي تجعل من المستحيل وجود "مقاومة مشتركة". تسعى سياسات الغسيل الوردي وسياسات الهويّة التي نقدتها القوس منذ سنوات دومًا إلى خلق هذا الوهم بوجود تجربة كويريّة واحدة عابرة للطبقات والقوميّات والسياقات المختلفة، وهو تمامًا ما يعيدنا إليه عطشان ومشروعه.
وأخيرًا، ومن أكثر النقاط حاجة للتوقّف والانتباه، هو الضرر الذي تحدثه هذه الندوة أو أي خطوة ضمن هذا النهج على حراكنا ونقاشنا الفلسطيني المستمرّات/ين في بنائه منذ سنوات، حيث يشكل تراجعًا للعمل السياسي الفلسطيني الكويري الحيّ والمؤثّر الذي خلقناه بانفصال عن المنظومة الاستعماريّة بمؤسساتها وأشخاصها، بل وبمواجهة عنيدة لها. في كلّ مرّة يساهم عطشان أو غيره في التطبيع والغسيل الوردي يشعر نشطاء القوس وغيرها من حراكات ومجموعات بصفعة وخذلان لما يحدثه من تشويه للخطاب والعمل السياسي الفلسطيني الكويري. في ظلّ هذا الواقع، ترى القوس أهميّة مواجهة هذا النهج، وتطالب المشتركين فيه بالتوقّف عن أذى الحراك الفلسطيني الكويري المناهض للاستعمار والأشخاص الذين يعيشون توجهات جنسية وجندرية مختلفة والالتفات أكثر إلى مطالب النشطاء والمؤسسات الفلسطينية التي تعمل على خلق إمكانيات للحياة والمقاومة يوميًا.