سنواتٌ طويلةٌ من النضالات المختلفة على مرّ التاريخ علّمَتنا ألّا كثرة الأعداد ولا صخب الشوارع يمكنه أن يحدث التغيير بين ليلةٍ وضحاها. فالتغيير عمليةٌ معقّدةٌ وطويلة الأمد، وقد لا نرى نتائجها في المستقبل القريب. لكنّ هذا لا يعني ألّا جدوى من تنظيم الاحتجاجات والتظاهرات، بل على العكس، فجزءٌ كبيرٌ من قوّة الحركات والتحرّكات في الشارع هو في قدرتها على تغيير ذهنيّات الناس، بمن فيهم من لا يشارك فيها، كما في تغييرها حياة المتظاهرات والمتظاهرين أنفسهم/ن.
في فلسطين، تنظّم مؤسّسة القوس ومؤسّساتٍ ومجموعاتٍ نسويّةٍ وكويريّةٍ فلسطينية للعام الثالث على التوالي وقفة "صرخة كويرية للحرّية" في حيفا، بهدف التأكيد على أنّ قضايا التعدديّة الجنسيّة والجندريّة هي قضايا المجتمع برمّته. فما أهمّية تلك "الصرخة"؟ وما كان وقعها لاسيما في ظل الهبّة الفلسطينية الأخيرة؟ نشارك في ما يلي - بالعامّية الفلسطينية - تجاربَ أشخاصٍ عاشوا الصرخة وشارَكن فيها.
الصورة لماريا زريق
الصرخة والعلاقة بالأهل
ــ إيناس
لمّا شاركت أهلي حقيقة مثليتي سنة 2014، فضّلتأمي التطبطب على الموضوع وطلبت مني أخبّي ميولي عن المجتمع بشكل كامل. هذا "الاتفاق" كتير خنقني وخلّاني أبعد عن أهلي. علاقتي مع أمي كانت غير صادقة وحسّيت أني لازم أخفي عنها جزء مني. حاولت أكسر الاتفاق سنة 2017 بمشاركتي لصورة علم الفخر على منصة إنستغرام.
للأسف، المشاركة سبّبتلي كتير مشاكل مع العائلة الموسّعة إلّي شكّلوا ضغط على أمي وعليّ من خلال تلفونات ابتزاز، وهددولي استقلاليتي ومستقبلي واستمرارية تعليمي بشكل غير مباشر، لأني كنت معتمدة على أهلي ماديًا بشكل جزئي. وهيك رجّعوني على الخزانة إلّي حاربت سنين طويلة حتى أطلع منها.
طوال ثلاث سنين، حياتي كانت كتير صعبة. قطعت علاقاتي مع أغلب أفراد عائلتي، وعشت حياة مزدوجة وخفيت جزء من حالي عن أفراد العائلة المتبقيين بحياتي. كل يوم كان يمرّ، كنت أحسّ بالوحدة وإني مخنوقة وبدّي أصرخ. لما سمعت عن "الصرخة الكويرية للحرّية" بتاريخ 29 تموز/يوليو 2020 في حيفا، عرفت أني لازم أتواجد فيها بأيّ ثمن. كتير بتذكّر شعوري بين أفراد مجتمعي عم بهتف بالشارع لأول مرة بدون ما أشعر بوحدة أو غربة. كنت مليانة بشعور بالفخر والفرحة والأمل، مخلوطين مع شعور الخوف والقلق أني أظهر بصورة أو فيديو وأهلي يعرفوا عن مشاركتي في "الصرخة".
بنهاية "الصرخة" السنة الماضية، كان فيه بخطاب القوس جملة انحفرت بذاكرتي: "إحنا فاهمين التحدّيات لكن خلص تكونوا حرّاس التقاليد، خلص يهمّكوا كلام الناس والسّمعة. إحنا أولادكو، حبكوا إلنا". بهديك اللحظة، حسّيت
الصرخة وخطاب القوس للأهل عملوا تغيير جذري وإيجابي بعلاقتي مع أمي بشكل خاص، ومع عائلتي الموسّعة بشكل عام. كلمات القوس عن حبّ الأهل كانوا صفعة أيقظت أمي وأعطتني دفعة داعمة ومحفّزة لإلي. من بعدها، فتحت مساحة لنقاشات وتحديات طويلة وحادة ومهمة مع أمي وأخوتي وعائلتي الموسّعة. تغيّرت محادثاتي مع أمي من محاولات قمع وإخفاء لمحاولات فهم وتقارب، ومن الشعور باليأس والتركيز على التعليم والعمل كتعويض عن مثليتي، للشعور بالأمل للتحرّر من السّمعة وحكي الناس.
مع "صرخة كويرية للحرّية" إلّي كانت بتاريخ 5 أيلول/سبتمبر من السنة الحالية، انتقلَت محادثاتي مع أمي من موضوع ظهوري للمجتمع على منصّات التواصل الاجتماعي بشكل غير مباشر، لظهوري للمجتمع كجزء من تنظيم "الصرخة" بشكل مباشر. ومشاركتي للمناشير والإعلان عن "الصرخة" نقلت محادثاتنا من توبيخ أمي على مشاركتي لمنشورات، لمحادثات عن كيفية التعامل مع الصعوبات إلّي منواجهها في المجتمع. ويمكن أهم تغيير وانتقال في سيرورة بناء علاقة جديدة مع أمي في أعقاب "صرخة" السنة الحالية، هو إعادة الأمل لأمي بأنها تصير جدّة لأولادي يومًا ما في المستقبل. هذا التغيير تجسّد وتذوّت بداخلي مع كلمات خطاب القوس في مظاهرة "الصرخة" هاي السنة: "صرختنا صرخة أمل".
الصورة من أرشيف مؤسسة القوس
عن كسر حاجز الخوف من الظهور
ــ رهف
"صرخة كويرية للحرّية" في رام الله كانت إلي درس عملي ومُعاش وحقيقي في الخوف وفي كسر الخوف؛ تحديدًا الخوف من الظهور كشخص كوير.
الساعات الأخيرة قبل ما نزلنا نعلّق ملصقات "الصرخة" في شوارع رام الله، عشت وحسّيت وشفت هاد الخوف على جسدي، بكل ألوانه، ولآخره. حسّيت بالخوف بعقلي، بمعدتي، بصدري وبعينيّي إلّي ما خلونيش أنام.
ككويريّات وكويريّين، سواء سكتنا أو حكينا رح نتألم. لما نحكي، العالم برفضنا وبعنّفنا. ولما ما نحكي، برضو العالم بوقّفش يرفضنا ويعنّفنا، ومنصير عم نتألم بصمت. على الجهتين في عنا شو نخسر، وعلى الجهتين الألم بوقّفش. الصمت لما يطوّل بصير كثير ثقيل ومؤلم، بنفس حجم الألم والثقل إلّي ممكن تسببه المواجهة أو الظهور.
كان يوم كامل من قلق بنهش بعقلي، وشعور خانق بعدم الجاهزية أو حتى القدرة على الفعل أو القول، وحزن ويأس ثقيلين بعد ما بلّشت أنظر إلى نفسي وحياتي بعين صريحة وصادقة حد القسوة. في محل، بدأت أتساءل عن أعمق مبادئي وأكبر مخاوفي، وفي محل بدأت أطّ لع فيه بكل صدق على موقعي من المجتمع وعلاقتي معه كشخص كوير، عن علاقاتي مع أهلي وزملائي وزميلاتي وأصدقائي وصديقاتي وكل الناس حواليّ، عن شروط وحدود هاي العلاقات؛ أسئلة مؤلمة وأجوبة أكثر إيلامًا زادتني خوف ويأس.
لم أتوقع للحظة أن أجد في نهاية الخوف بداية القوة، بداية الفعل، بداية الأمل. في نهاية تلك الرحلة الطويلة من الخوف، تفاجئت أنه عقلي صفي وجسمي ارتاح، وبالمحصّلة ما ضلّش قدامي إشي غير ضرورة وأهمية وقيمة الفعل، غير حاجة ورغبة كبيرتين وعميقتين بالمواجهة. لطالما سمعت أنه الخوف على جانبين الفعل وعدمه هو ذاته، وبالفعل شفت هاي المقولة هالمرّة على جسدي. عشت التحول من الصمت إلى القوة بأكثر الطرق وضوحًا ومباشرة.
إلّي اكتشفتُه وإحنا منعلّق الملصقات أنه لما نواجه، صحيح الألم ما بنتهي، بس عالقليلة بتغيّر، لأنه المواجهة بتجيب معها قوة، بتجيب معها متعة، وبتجيب معها مجتمع. كنا بنلزّق الملصقات، مدركين قديش إلّي عم نعمله مخيف، بس كنا مبسوطين كثير، وواثقين ببعض كثير، وحاسّين بحبّ واهتمام كثير حقيقيّين وصادقين وكبار. إلّي تعلمتُه أنه لما نواجه، أو نحكي، أو نكسر الخوف والصمت بأي شكل كان، مش بالضرورة الألم يوقف، بس بيصير في قوة وأمل كثير كبار، بخلّوا الفعل/القول المواجه بيستحق نخاطر ونكسر الصمت رغم الخوف، لو لليلة.
الصورة لأنجيليك عبّود
الصوت مسموع عن بعد 4,6 كيلومتر
ــ أدهم
"للمثلي إلّي مش معنا، إحنا عشانك طلعنا". هاي الجملة صرخوها رفاقي المثليات والترانس في شوارع حيفا.
سمعت هاي الجملة من بعد 4,6 كيلومتر من بلكوني الصغير.
إنك تكبر كعربي فلسطيني كويري في حيفا يعني إنك تحسّ بالوحدة، يعني تعيش مع أسئلة بتدور براسك عن ليش أنت حاسس هيك وليش أنت هيك. أنا عارف إنو ولا حدا حواليّ بقدر يعطيني الأجوبة عن كل هاي الأسئلة، فبلّشت أحسّ أني مختلف. أنا كنت مختلف…
بتذكر حسّيت أني مختلف لجزء كبير من عمري. طوال سنين المدرسة وبين كل الناس إلّي قابلتها بحياتي، أنا كنت المختلف. والسؤال الكبير إلّي دايمًا كان يرافقني: "ليش؟".
قبل تلات سنين، كنت بالسيارة جنب أمي عم بسوق بشارع حيفا. وفجأه بشوف علم الرينبو (قوس قزح) من بعيد عم بشوّحلي بالهوا. بقرّب أكتر وبشوف أكتر من 100 شخص عم بصرخوا وبهتفوا بالشارع بأعلى صوت. "مثليات وعابرات فخورات"، بهتفوا بأصوات عالية وكل العالم عم تسمعهن. ولأول مرة بحياتي ما حسّيت أني مختلف، لأول مرة سؤال "ليش؟" بطّ ل مهم.
أنو تشوف حدا بشبهك ومثلك كتير مهم! "صرخة كويرية للحرّية" هي صرخة لكل كويري/ة بالعالم، صرخة بتجمع كل كويري/ة عربي/ة فلسطيني/ة سوا، حتى لو كنت بعيد 4,6 كيلومتر أو أكتر.
"صرخة كويرية للحرّية" قدرت تمحي شعور الوحدة والاختلاف. والأهم من هيك، جاوبتني على سؤال "ليش؟".
جواب "ليش؟" كان ببساطة هو أني أنا مش مختلف، أنا كوير. شكرًا رفاقي.
الصورة لأنجيليك عبّود
إحساس مش مألوف بالحرّية
ــ نادين
في 29 تموز/يوليو 2020، كنت قاعدة بغرفتي ببيتنا بالقدس، طافية الأضواء، مسكّرة الستائر، وحاطة سمّاعاتي بشرب شاي بميرمية بهدوء. كنت عم بحضر لايڤ (live) "الصرخة الكويرية للحرّية" بحيفا من خلف شاشة تلفوني وأنا بتساءل إذا الصراع بيني وبين خوفي من الانكشاف عمره رح ينتهي بتغلّبي على الخوف، وبمشاركتي بـ "الصرخة".
كنت شايفة مكاني بين الناس إلّي ما كنت أعرفهم، كنت حاسّة بفخر رهيب وبإحباط على حد سواء. مشاعري تخربشَت بزيادة لما سمِعت هتاف "يا مثلي إلّي مش معنا، عشانك إحنا طلعنا".
سنة 2021 حملت معها استحداثات هامة على الشارع الفلسطيني بشكل عام، وعلى الصعيد الشخصي بشكل خاص. الشارع الفلسطيني واجه وضع غير مسبوق نتيجة لأحداث الشيخ الجراح وهبّة أيار والحرب على غزة. أمّا على الصعيد الشخصي، فطرأ على حياتي تغييرات جذرية مثل قراري بتغيير وجهة عملي المهني من مجال القانون الصلب إلى الجانب الحقوقي، وانشغالي بقضايا مجتمعية كناشطة نسوية وفلسطينية. بالإضافة لذلك، بهاي السنة قطعت شوط كبير في العلاج النفسي واستكشاف ذاتي والعمل على حبّها وتنميتها. هاي التغييرات ساهمَت بتحوّل مشاركتي إلّي اقتصرت عام 2020 على مشاهدة "الصرخة" من خلف شاشة إلى مشاركة فعلية في "الصرخة" عام 2021، والانخراط بتنظيمها وإعداد وتلصيق ملصقات عن صرختنا لحرّيتنا بشوارع القدس.
الملصقات شملت مقولات وجودية مثل "مثليّات وحرّات بعلاقاتنا وحبنا، فلسطين إلنا كلنا"، و"الغسيل الورديما بمحينا، فلسطين إلنا كلنا"، و"ترانس وهون أرضنا، فلسطين إلنا كلنا".
هاي الملصقات الثوريّة تم وضعها بنفس الشوارع إلّي عجّت بالاشتباكات والمواجهات مع شرطة الاحتلال، وبنفس الشوارع إلّي شهدت اعتقالات وحشية لبنات وأبناء القدس.
هذا الأمر كان عظيم وأوّل من نوعه. هاي السنة غير عن السنين إلّي فاتت، امتلأت شوارع القدس بالملصقات، وهذا الأمر أفعمني بالأمل أنه بيوم من الأيام ممكن "الصرخة الكويرية للحرّية" تكون بالقدس ونحسّ فعلًا إنه فلسطين تحتوينا كلنا.
أثناء مشاركتي بالصرخة في 5 سبتمبر/أيلول 2021، هتفنا "يا مثلي إلّي مش معنا، عشانك إحنا طلعنا". وبلحظتها، حسّيت بإحساس مش مألوف بالحرّية! الخوف من الانكشاف تحوّل إلى "يا ريت كل الناس تشوفني بهاللّحظة، يا ريت كل الكرة الأرضية تشوف إني هون، إني بالمكان إلّي بستحق أكون فيه، عشاني وعشان كل شخص كوير قاعد بغرفته، طافي الأضواء، مسكّر الستائر، وعم بحضرنا لايڤ من ورا شاشة".