نُشرت هذه المادة سابقًا على موقع ألترا فلسطين. لقراءة المادّة من مصدرها الأصلي انقروا هنا.
يوم أمس السبت، أعلنت أجهزة الشرطة التابعة للسلطة الفلسطينية، على لسان المتحدث باسمها، نيتهاملاحقة نشاطات وناشطي مؤسسة القوس للتعددية الجنسية،على إثر جدل حول نشاط توعوي للقوس قيل إنه سيقام في مدينة نابلس.
من اللافت أن من ينظر إلى لغة بيان الشرطة، سيجد تشابهًا يكاد يصل إلى نقطة من التطابق، بين خطاب السلطة الفلسطينية إزاء قضايا المثلية والحريات الجنسية، وأنظمة عربية عديدة، في مصر والأردن ولبنان وغيرها. حيث ستتكرر عبارات "الفتنة" و"تفتيت المجتمع"، و"المساس بالسلم الأهلي والقيم العليا".
يدرك المتابع لعمل مؤسسة القوس، هذا الحرص الذي قد يكون مبالغًا به أحيانًا، في تفهم والتعامل مع الحساسيات الثقافية لهذه القضايا في المجتمع الفلسطيني، وقد استطاعت المؤسسة بوضوح خلال أعوام من العمل، تقديم خطاب توعوي ونقدي تجاه قضايا الجنسانية في المجتمع الفلسطيني، لكنه خطاب لا يستغرق في العداء العام للمجتمع، وربما يبدو حريصًا على إنجاز تسوية معه، يستطيع من خلالها تحقيق تغيير على المدى الطويل.
لم تنجر "القوس" إلى نزعة رائجة عند هذا النمط من المؤسسات في العالم، حتى بدا أنها تجنبت الإشارة إلى عمليات الملاحقة الأمنية قبل هذه المرة، فيما ظهر وكأنه إصرار في التركيز على الغاية لا على معيقاتها.
تضمن بيان الشرطة مجموعة تهم أساسية، دارت حول "تفتيت المجتمع" والسلم الأهلي والقيم العليا، وهي كلها مفاهيم غامضة وفضفاضة يسهل توظيفها على هوى السلطة. أما بالنسبة لتفتيت المجتمع الفلسطيني، فمن اللافت أن المؤسسة، ويدرك ذلك من يطلع على عملها، تبنت من اللحظة الأولى مفهومًا شاملًا لفلسطين، يتضمن مناطقها جميعها، ساعية إلى التواصل مع الكل الفلسطيني، في حين يعرف الجميع أن شرعية السلطة الفلسطينية، قامت أصلًا على هذا التفتيت، وعلى اختزال فلسطين إلى مناطق مقطعة في الضفة الغربية، لا تستطيع أجهزة الشرطة نفسها التي أصدرت البيان، الوصول إلى معظمها.
وأما عن السلم الأهلي، فهذا المفهوم الغريب والفضفاض، كان من الأولى أن يُستخدم للتعامل مع التغاضي الممنهج من السلطة الفلسطينية عن "جرائم الشرف"، أو مع قوانين عشائرية شردت عائلات كاملة من بيوتها، تحت نظر "دولة القانون".
لا يعرف من يقرأ بيان الشرطة، ما هي القيم العليا، إن لم تكن المواطنة وحرية التعبير والمساواة أمام القانون. أما الطريف أن البيان لم يجادل أصلًا، في دواعي ملاحقة هؤلاء النشطاء، أو معنى تجريم المثلية الجنسية، ودوافعها، وإنما بدا وكأنه لا يحتاج إلى ذلك؛ إنها مجرد هبة "رجولية" يراد من خلالها إثبات شيء ما لأوساط المندفعين والمهاجمين على المؤسسة، بدلًا من ردعهم وحماية مؤسسة فاعلة من مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني.
هكذا أرادت السلطة الفلسطينية، أن تقول لهؤلاء، أننا "غيورون" على هذا الشيء الغامض الذي يسمى قيمًا عليا، أكثر منكم، وهكذا فإنها تشعر بالتهديد، لا من التهجم على مؤسسة ونشطاء مدنيين، ولكن لأنها لم تكن سباقة إليه، ولأنه لم يأت أول الأمر من خلالها.
من القاسي الإدراك أن ما تقوم به السلطة الفلسطينية من العداء للقوس ومؤسسات شبيهة، يأتي في سياق كامل وواضح، تستغل فيه "إسرائيل" قضايا المثلية الجنسية لتلميع صورتها، فيما يطلق عليه ناشطون وأكاديميون حول العالم مصطلح "الغسيل الوردي"، حيث تروج "إسرائيل" لنفسها كحاضنة لهذه الحريات حول العالم، من أجل تشتيت الانتباه عن حريات أخرى تنتهكها، وضحايا آخرين تستمر يوميًا، بفعل وجودها، في ضبطهم واستبدالهم وتهجيرهم وقتلهم.
أما الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية، فتقوم بالهجوم على كل منجز القوس ومؤسسات أخرى في تفكيك هذا الخطاب الاستعماري وتعريته، وتضع في فم جهاز البروبغاندا الإسرائيلي لقمة كبيرة. ومن يشكك في ذلك، فعليه انتظار انتشاء الإعلام الإسرائيلي في تغطية ما حدث.
من المهم أيضًا الإشارة إلى المنطق الإعلامي في التعامل مع قضايا من هذا النوع. فلو سلمنا بوجود تعريف لهذه "القيم" فإن كثيرًا منها "يُمس" يوميًا في ظل حكم السلطة ولا تحرك ساكنًا. ناهيك عن نشاطات من النوع نفسه تحدث في مناطق مختلفة من الضفة. فهل تتحرك السلطة لكسب جولة إعلامية في موضوع رائج؟
تحاول السلطة طرح نفسها كممثل للفئات الساخطة، وهي فيسبوكية في الغالب. تريد أن تعبر عن نفسها كممثل لفئات محافظة تثير ضجة. ولا تنتبه لحقيقة عدم تمثيل هذه الفئات لقطاعات واسعة، والأهم هنا هو خطاب هذه الفئات المضاد للقانون، فدعواتها دعوات قتل وحرق. أليس هذا تحريضًا؟ فحتى المطالبات القانونية غير موجودة في لغة المهاجمين، وإنما هي لغة فلتان أمني من البديهي أنه أكبر تهديد للسلم الأهلي المزعومة حمايته في بيان الشرطة.
أليس هذا تحريضًا؟ فحتى المطالبات القانونية غير موجودة في لغة المهاجمين، وإنما هي لغة فلتان أمني من البديهي أنه أكبر تهديد للسلم الأهلي المزعومة حمايته في بيان الشرطة.