أطلق مشروع "غنّي عن التعريف"في الخامس والعشرين من أيّار الماضي أسطوانة موسيقيّة بنفس الاسم، والتي تضم ثمان أغاني وصفها البيان الصادر عن المشروع أنها أغانٍ "تخاطب مواضيع التعدديّة الجنسيّة والجندريّة، وتجارب من حياة المجتمع المثليّ في فلسطين". تم إصدار الأسطوانة بمبادرة من جمعيّة "القوس للتعدديّة الجنسيّة والجندريّة في المجتمع الفلسطيني"، والتي تسعى للمساهمة ببناء مجتمع فلسطينيّ منفتح يحترم تعدّديّة وإنسانيّة جميع أفراده، عبر مشاريع بمحاور اجتماعيّة سياسيّة وثقافيّة مختلفة، كحملة “Pinkwatching Israel” التي تشارك بها الجمعيّة. يارا سعدي تحاور القائمين على المشروع حول أسطوانة "غنّي عن التعريف":
يارا: ذكر في بيان المشروع أن الأسطوانة "بمثابة دعوة لفتح حوار من خلال طريقة إبداعيّة من جهة، ونقل صوت الشارع من جهة أخرى، ممّا يكون لفئة الشباب الدور الفعّال بالحديث عن تجاربه بشراكة كاملة مع فكرة المشروع الأساسيةّ." لماذا برأيك كانت هناك هذه الحاجة للمبادرة الممنهجة؟ ولماذا يتم تهميش هذه المواضيع؟ وما هي المعيقات أمام الموسيقيين التي تمنعهم من تناولها؟
غنّي: عزّزت تجربة "غنّي عن التعريف" هدف جمعيّة "القوس" على العمل مع كافة شرائح المجتمع. إذ لا نرى أنّ دورنا يقتصر على العمل مع المجتمع المثليّ الفلسطينيّ فقط، ولا نفسّر نضالنا بواسطة مفاهيم قطبيّة تعيد تقسيم المجتمع إلى فئات: (مثليّون ومغايرون، هوموفوبيون وليبراليون وغيرها)، والتي بدورها تبعدنا عن رؤيتنا ولب عملنا والذي هو التحدي والتأثير على قضايا القمع الجنسيّ والجندريّ. كانت "غنّي عن التعريف" تجربة مشتركة لأكثر من 80 ناشطة وناشط لإنتاج نصوص وأغانٍ تنقل جزءاً من التجارب الجندريّة والجنسيّة من منظور، وعبر التواصل الشخصي لكلّ ناشط/ة وفنان/ة مع هذه المواضيع. من جهة، جمهور الفنّانين والفنّانات الفلسطينيين هو قسم من المجتمع الفلسطينيّ، والذي ما زال يحمل آراءً مسبقة ومخاوف عديدة عند التطرُّق والحديث عن مواضيع تهدّد الهيمنة الذكوريّة، والمفاهيم الجنسيّة والجندريّة المقبولة والسائدة في المجتمع. من جهة أخرى، ومن تجربتنا في العمل مع الفنّانات والفنانين في مشروعنا، فاجأتنا الجاهزيّة والرغبة في العمل على هذا الموضوع؛ فلم نقم ببذل جهد لإقناعهم، وفي الأغلب رحب الفنانيّن والفنّانات بالمبادرة، بل تجنّدوا أيضاً للمساعدة في استقطاب فنّانات وفناّنين آخرين ووصلنا بهم/ن. لعلّ أهم تحدٍّ مشترك للعاملين - من ناشطين وفنّانين - كان الوصول إلى نصوص ملائمة، إذ كان طلب "كتابة وتلحين وغناء حول موضوع الهويّة الجنسيّة" لم يكن واضحاً أو كافٍ، وإنما انسجمت في سيرورة استمرّت على مدى أكثر من سنة عمل.
نحن نعي أن مواضيع الجنسانيّة بمجملها هي مواضيع نتعامل معها يوميّاً جميعنا بالرغم من "التابو" و"الممنوع"، وأن هناك تعطّ شاً عند المجموعات الشبابيّة لمعلومات وأجوبة لتساؤلاتهم عن هذه المواضيع، سواءً أكانت صادرة عن حب الاستطلاع أو الاهتمام الشخصيّ. من أجل محاكاة الشباب بشكل مباشر وصريح، كان من الضروري استخدام وسائل جديدة التي يتم اختيارها بشكل واعٍ، وتستطيع اجتياز المؤسسات الرسميّة السائدة كالمدارس والمجموعات الشبابيّة التي ما تزال تتحفّظ من الحديث المباشر والحوار عن الجنسانيّة مع مختلف الأعمار، واقتراح بديل لها. فمن رؤيتنا لشرعيّة وقدرة الفن، وبالأخص الموسيقى، في الوصول إلى فئات شبابيّة، اخترنا هذه الطريقة البديلة للوصول إلى فئات جديدة، والتي توفّر منصّةً للحوار عن مواضيع الجنسانيّة في جوٍ بعيدٍ عن الأحكام المسبقة، وبشكل مباشر يكون فيه الوسيط الوحيد هي الأغنية، نصًا وموسيقى. رأينا أن هذه الطريقة قد تخلق نقاشًا قد يبدأ من السؤال العادي "ما هي أغنيتك المفضلة؟" فيتعمّق بالموسيقى، والكلمة والمعنى وتداعياتها الاجتماعيّة والسياسيّة والجنسيّة.
لا نحتكر فكرة الغناء عن الجنسانيّة، أو ندّعي أن الفنانين المشاركين لم يتطرقوا إلى هذه المواضيع من قبل – ولكن الجانب الممنهج لهذه المبادرة كان قرائتنا لضرورة إنتاج مواد جديدة عن هذه القضايا بعيداً عن المؤسسة، وقراءة لجاهزيّة المشهد الفنّي البديل والشبابي بالتطرّق المباشر لهذه القضايا. وفهمنا بأنّ إنتاج كمّ من الكلمة والموسيقى التي تخص هذه المواضيع، قد يكون له تأثير أكبر من انتاج فيديو واحد أو أغنية واحدة على يد فنان أو فنانة بشكل فردي. الجهد والمنتوج الجماعي، والذي أتى تحت مظلة واضحة، لا تفسح المجال لتساؤلات: وإنما هي مقولة مباشرة وصريحة عن مواضيع التعدّديّة الجنسيّة والجندريّة – وذلك بالرغم من أن ابتعاد بعض النصوص عن المقولة المباشرة. لعلّ أغلب المواضيع التي تخص التعدّديّة والقمع الجنسيّ والجندريّ لم تدرج تحت هذه المبادرة، ولم يكن همّنا تغطية كل المواضيع، ولكننا أردنا أن نضع في أيدي المجتمع العام منتوجاً، الذي بالإضافة إلى محاكاته للعقل والعاطفة، يبرهن أيضاً على أنّه لا يمكن تصنيف مجتمعنا عند تعامله مع مواضيع الجنسانيّة إلى الأبيض أو الأسود.
لم تكن الحاجة "لمبادرة ممنهجة" كما ذكرتم بموجب فتح حوار عن مواضيع الذي لا تزال تعتبر تابوهًا، إذ لا يتم الحديث عنه ولا تداوله اجتماعيّاً. إنما أيضاً لأسباب تقنيّة تواجه الفنانين في كتابة وتسجيل وتوزيع المنتوجات الثقافيّة، وبالأخص الموسيقية في بلادنا. ونرى دور "غنّي عن التعريف" أيضاً في المساهمة ولو بشكل محدود في توفير منصة إضافيّة قد تساعد على تخطّ ي بعض هذه المعيقات. كما رأينا أنّه على الرغم من طموح مؤسسات المجتمع المدني والحركات السياسيّة والاجتماعيّة للتغيير الاجتماعي، إلّا أنّه لا يتم الحديث عن تركيبة هذه السيرورة وضرورة تجزيئها إلى خطوات عينيّة وعمليّة، وتوفير مساحة آمنة للشركاء المختلفين في خوض تساؤلات وتحدّيات، وتدفعهم مع المنظمين إلى محاكاة ومسّ قضايا جديدة. مبادرتنا الممنهجة حاولت تفكيك طموحنا لتغيير مفاهيم التعدّديّة الجنسيّة والجندريّة إلى خطوات واضحة وواقعيّة ومتواضعة من الفنانين والفنانات، وذلك بشكل سوي ومتبادل، بعيداً عن استراتيجيات "القبول" المألوفة (حيث الفئة المقموعة تطالب الطرف القامع بقبولها تحت أجنحته بدل إشراكه بسيرورة التغيير). سيرورة العمل على "غنّي عن التعريف" كانت محاولة لعيش وممارسة هذا التوجّه، وتطوير الطرق والأطر التي نستطيع بواسطتها العمل بشكل جماعي على مفهوم التغيير، والأهم أن نتغير معه.
يارا: بما أن الأسطوانة مبادرة موسيقيّة مقصودة كوّنت وضعاً يُطلب فيه من الموسيقيين كتابة وتلحين أغانٍ حول موضوع الهويّة الجنسيّة. ما هي المعيقات التي واجهتكم في سيرورة كتابة وتلحين الأغاني؟
غنّي: "غنّي عن التعريف" هي مبادرة تجريبيّة جمعت العديد من الناشطين والفنانين ليتسائلوا، ويكتبوا ويغنّوا عن مواضيع التعدّديّة الجنسيّة والجندريّة من منظورهم وتواصلهم مع هذه القضايا، على الرغم من التفاوت بالمعرفة والتواصل مع المجتمع المثليّ. ولعل هذا التفاوت كان أهم التحديات التي واجهناها والذي أشغلنا على مدار السنة الأخيرة. من مبدأ العمل المشترك، لم ترى القوس دورها في السيطرة على الموسيقى أو الكلمة، وكان علينا أن نتعايش مع اختيارات رأيناها لأول وهلة أنها قد لا تتماشى مع سياساتنا الجنسيّة والجندريّة. ولكن هذه السيرورة أجبرتنا على التعامل مع أسئلة نكاد أن ننساها من وراء مكاتبنا واجتماعاتنا المغلقة، وأهمها: كيف بإمكاننا ترجمة سياساتنا وتحليلنا الجنسانيّ والجندريّ في مجتمعنا، ومن تجربة المجتمع المثلي والكويري بشكل جديد يفتح للآخرين من خارج دوائرنا مجالاً للتواصل معها وتفسيرها من مواقعهم، وبالتالي تطويرها وتغييرها وتغييرنا أيضاً. الثقة التي وضعناها في هذه السيرورة - ومع العلم أن سيطرتنا على المنتوج النهائي كانت محدودة – أدت إلى تحوّل معين في رؤية وتوجّه عمل القوس الأهلي. وهذا التحوّل الذي نراه ضروريّاً لاستكمال العمل على توسيع الحلقات التي باستطاعتنا الوصول إليها، وبالتالي تأثيرها على عملنا في المستقبل.
بالرغم أننا لا نصنّف هذه الصعوبة كمعيق، إلا أن الفنانين والناشطين انشغلوا حتى اللحظة الأخيرة بأسئلة حول ما هو نص ملائم؟ هل بالإمكان تحت هذه الشروط الدمج بين نص ملائم وجميل؟ ما هي النصوص التي بالإمكان تلحينها وغنائها؟ وأيّة نصوص يتواصل معها المؤديين؟ هذا الحوار الداخلي أخذ الحيّز الأكبر من العمل على المشروع بما أن الكلمة والمضمون لهما أهمية عالية في مثل هذه المبادرة. من جهة أخرى، كان همّنا أن تمثّل النصوص تواصل ومفهوم المشاركين عن الجنسانيّة. وذلك لإيماننا بأنّ العمل على التغيير يجب أن يبدأ كقسم من سيرورة العمل نفسها وكجزء أساسي منها، ولا يحدث فقط عندما يتعامل المجتمع مع الأغنية والأسطوانة كمنتوج "نهائي"، كما لا يتوقف عند انطلاق الاسطوانة. شغلت هذا المرحلة جلّ العمل على المشروع، وتميّزت بالتقلّبات والنقاشات الدائمة، والتي في حاصلها أثّرت على المشروع بشكل بنّاء.
بالإضافة إلى أنه في بداية العمل كان أحد المعيقات الاساسية تذمّر قسم من الفنانين من عدم وجود استوديوهات بجودة عالية في الحيز الفلسطيني. وعند وصولنا إلى هذه المرحلة اتّضح أن هذا الجانب لم يكن مشكلة على الإطلاق، إذ تم تسجيل الأغاني في استوديوهات محليّة في حيفا والجولان، ونحن سعيدين بدعم "غنّي عن التعريف" المتواضع لهذه الجوانب المهمة والضرورية.
يارا: عقّب أحد حضور حفلة إطلاق الأسطوانة في حيفا على الفيسبوك أنّه: "يمكن عرض "غنّي عن التّعريف" مبارح كان تعبير محسوس عن فقاعة موجودة بمجتمعنا، بس هالفقاعة هالقدّ حرّة ومتقبّلة للجميع. كان موجود نوع من الأوتوبيا اللي فش أحلى منها. بتمنّى إنّه هاي الفقاعة تنفجر وتلطّ خ الكلّ بجمالها، بلكي تطوّر مجتمعنا شوي". ورغم اختلاف الأصناف الموسيقيّة المطروحة في الأسطوانة، إلا أنها جميعاً تتجاوب مع صنف "الموسيقى البديلة"، والتي غالباً ما يتم انتقادها أيضاً بأنها محصورة بجمهور معيّن يتمتّع بطبقيّة معيّنة. على ضوء هذا النقد، لماذا تم اختيار هذا الصنف الموسيقي بالذّات، خاصّة أنّ المشروع يهدف للتواصل مع الجمهور الأوسع؟
غنّي: يعتمد المشهد الموسيقيّ في فلسطين على الموسيقى البديلة كنمط أساسي، خصوصًا في الآونة الاخيرة. لا تعتبر هذة الموسيقى بديلاً لنمطٍ موسيقي معيّن، بل بديلاً صارخ للسائد من ناحية الكلمة والنص، والتي طرحت مواضيع لم نتعوّد طرحها من خلال الموسيقى السائدة من نقد سياسي واجتماعي جريء. هذا النوع من الموسيقى هو استكمال لتطوّر الحركة الموسيقيّة السياسيّة تاريخيًا في فلسطين والعالم العربي. وإدراج هذا النمط الموسيقي تحت هذا الإطار الذي يتم طرحه على نطاق النقد الأجتماعي ساعدنا، بل سهّل علينا تقديم المواضيع التي نود طرحها بإطار موسيقي، ومن دون التطرّق إلى التساؤل عمّا إذا كان من المقبول طرح هذه المواضيع عن طريق الموسيقى. ولكن من ناحية أخرى، لم يكن هذا النمط في الأسطوانة اختيار مسبق من قبلنا، فمنذ بدء العمل على المشروع، لم نحدّد أي نمط موسيقي نريد – حيث توجهنا إلى فنانين وفنانات يؤدون أنماطًا مختلفة موسيقيّاً- بل على عكس ذلك، أردنا أن نطرح المواضيع بأنماط مختلفة. لكن لم تكن لنا السيطرة على اختيار الأغانيّ والنمط الموسيقي والمشاركين في المشروع. بمعناه أن المشروع والنمط الموسيقي تكوّن من الفنانين والفنانات الذين أبدوا اهتماماً بالمشاركة في هذه المغامرة، وشاءت الصدف أن من شارك بالمشروع هم فنانون مندرجون تحت نمط الموسيقى البديلة.
نحن واعون إلى أن الموسيقى البديلة ستحدّد، بطريقة أو بأخرى، جمهور الهدف. وهو جمهور يتمتّع بثقافة وذوق موسيقي معين التي بدوره ممكن أن يدل على انتماء طبقي معيّن، كما ذكرتم. وبالرغم إلى أننا نهدف إلى توسيع النقاش على نطاق مجتمعيّ أوسع، إلا أن فهمنا للتغيير قد يختلف قليلاً. نحن نرى أن التغيير والمجتمع والفقاعات المختلفة هي نسبية، وإذا كان لهذا الهدف المشترك احساس معين في الفقاعة، فبالنسبة للقوس ثلاثة أرباع من الجمهور الذي تواصل معنا واشترك في الحفل هو جمهور جديد. يستحيل لأي مبادرة أيّاً كانت أن تصل إلى جمهور هدفها إذا كان هذا الجمهور هو "المجتمع". نحن نرى المجتمع كفئات قد نحكيها ونحاكيها في طرق مختلفة، وفي هذا المشروع استطعنا توسيع حلقاتنا والوصول إلى جمهور شبابيّ، ودخول المشهد الموسيقي البديل. حتى أن الأغاني كانت حاضرة في نقاشات عائليّة وعمل طواقم مؤسّسات. غنّي عن التعريف، كما ذكرنا سابقاً وفي أماكن مختلفة، هو مشروع تجريبي. نحن نعتبره خطوة أولى تطرّقت بشكل جزئي إلى مواضيع تتعلّق بالجنسانيّة، وتسعى لتشكيل مساحة حرّة لفتح نقاش يتعلق بالجنسانيّة. ونحن نهدف ونأمل أن ننتقل بالمشروع لمراحل متقدمة أكثر.
يارا: بينما يسعى المشروع "لفتح حوار"، نجد أنّه لا توجد أيّ مرجعيّة في المشروع للحوار الثقافي العربي الموجود في الأدبيّات والموسيقى حول مواضيع التعدديّة الجنسيّة. إذا ما ذكرنا نماذج منها: الخطاب بالفترة العباسيّة (أبو نواس)، وفي "ألف ليلة وليلة"، حتى لدى تأويلات الآية القرآنيّة "يطوف عليهم ولدان مخلّدون"، عدا أغنية واحدة في الأسطوانة استخدمت كلمات نزار قبّاني، الذي قد يعتبره البعض ذو نبرة ذكوريّة فجّة.
هل تعتقدون أن هذا الوضع يعكس تهميش هذه الأدبياّت، حتى لدى شريحة الناشطين في هذه القضية؟ أم أنها خطوة مقصودة لخلق حالة جديدة تقبض على روح العصر، لكن منفصلة بعض الشيء عن السياق التاريخيّ والثقافيّ للمنطقة؟
غنّي: اعتمدت كلمات الأغاني في غالبيتها العظمى على الإنتاج المحلي للنص، وبالتالي على أن يكتب الفنانين المشاركين بالمشروع أو أصدقاء وصديقات "القوس" والمشروع كلماتٍ لأغانٍ مرتبطة بالمحور الأساسي لـ "غنّي عن التعريف". والأهم: كي "تخاطب مواضيع التعدّديّة الجنسيّة والجندريّة وتجارب من حياة المجتمع المثلي في فلسطين". وربما أكثر ما أراده الفنانين هو التعبير عن تجارب المجتمع المثلي في فلسطين، بقضاياه اليوميّة والمعاصرة وبلهجته المحكية قدر الإمكان، كي تكون الأغاني أقرب إلى الناس. نتاج المشهد الموسيقي الفلسطيني المحلي وارتباطه بالمنطقة. وبالرغم من غياب النص التاريخي والثقافي العربي القديم، إلا أننا نرى أن كلّ ما نتج من نصوص محلية هي بلا شك تطور طبيعي للتعبير عن مواضيع التعدّديّة الجنسيّة والجندريّة في السياق المعاصر. وربما أيضاً التمرد العام الذي يعيشه الحاضر وجيله.
أما بما يتعلق باستخدام كلمات للشاعر نزار قبّاني، كان التعامل مع النص بشكل أساسي أكثر من تاريخ قصائد الشاعر بالمجمل، "البعض يعتبره ذو نبرة ذكورية فجّة" يصبّ في مسألة تفسير نصوصه وتاريخه الأدبي، لأن بالمقابل هناك من يعتبره "شاعر المرأة". فيعود الأمر إلى تفسيرات أدبيّة اجتماعيّة. سواءً إن وافقنا أم اختلفنا مع هذه التأويلات، من البديهي والواضح أننا ضد أي نبرة ذكوريّة، لكن الأهم هُنا أن نص "القصيدة الشريرة" لا يحتوي أي نبرة ذكوريّة سلطويّة لا تمت بصلة لفكرة المشروع ولا للإنسانيّة ولا للمجتمع الذي نطمح أن نعيش فيه. إضافة إلى أن النص حين يخرج من منتجه كنص، يصبح تحت تصرّف القارئ. فالموسيقي هنا في استخدامه للنص كما القارئ تماماً، الأمر ممكن أن يكون ذاتيّاً، لكنّه يخدم مقولة اجتماعيّة يجتمع تحت سقفها العديد.
يارا: يتم ربط بداية الموجة النسويّة الثالثة مع تيّار موسيقى الـPunk، باسم grrrl Riot في بداية التسعينيّات في الولايات المتحدة، حيث خاطبت الفرق الموسيقيّة التابعة لهذا التيار مواضيع احتجاجيّة لدى شريحة الشابّات كالتحرش الجنسيّ، والمواضيع الجنسيّة، والعنصريّة، والهرميّة والسيطرة الذكوريّة. تحدّى هذا التيار موجات النسويّة السابقة المحصورة من حيث الطبقيّة والإثنيّة والجيل. وتعتبر الموجة النسويّة الثالثة اليوم مظلّة تحتوي على النظريّات التفكيكيّة مثل النظريّة الكويريّة، ونظريّة ما بعد الاستعمار وما بعد الحداثة وغيرها.
لعلّ ما يميّز تمرّد الـ Riot grrrl أنّ موقفهم لم ينحصر بالكلمات الجريئة والمباشرة فحسب، بل حاولت تجسيد موقف الغضب أيضاً من خلال الموسيقى - صنف البانك، ومن ثم تطويره لاحقاً لصنفٍ يميّز الحركة، كما وتعدّت الأغاني لتغيّر حتى في ديناميكيّة العروض التقليديّة والتي تجد فيها المرأة نفسها بعيدةً عن المنصّة، ومعرّضة للتحرشّات الجنسيّة.
بناءً على ما سبق، كيف، برأيكم، يمكن تحويل مشاريع مثل "غنّي عن التعريف" الذي يضمّ أغانٍ ذات نبرة فرديّة، إلى حركة احتجاجيّة جماعيّة تستوعب الحاجة إلى تغيير مجتمعي جذري؟ وما هي الخطوة الفعليّة القادمة للمشروع؟
غنّي: الشيء المهم أخذه في الحسبان هو أن حركة الـRiot grrrl وحركة الـqueercore من قبلها لم يخلقوا في فراغ موسيقي وثقافي. فهم اشتقّوا كحركات نقديّة من داخل موسيقى "البانك" النقديّة اجتماعيّاً وسياسيّاً. السياق المحلي مختلف كل الاختلاف: فمشهد الموسيقى النقديّة لا يزال في بداية ظهوره وانتشاره، وأنماطه مختلفة تماماً. في السياق المحلي، لا يوجد مشهد موسيقي موحّد حول نمط واحد سوا ربما في حالة موسيقى الراب، أو إذا انضم تحت عنوان الروك أنماط عديدة ومتنوّعة. نعتقد أنّه قد يكون مثمراً أكثر التطرّق إلى الموسيقى ذات الأنماط البديلة كرزمة ثقافيّة واحدة تحاول خلق مساحة ثقافيّة نقديّة واحتجاجيّة.
هل نطمح لأن يتحوّل "غنّي" لحركة احتجاجيّة جماعيّة؟ نعم، نحن نطمح لأن تكون المبادرة واحدة من الخطوات التي قد تحثّ على هذه التحوّل، ولكنّنا أيضاً نعي أن هذا الجانب لا يتعلق بنا بشكل مطلق، ونود رؤية الأسطوانة كمبادرة تضيف على تراكم التجارب الموسيقيّة المحليّة نحو تطوّرها كمشهد احتجاجيّ جماعيّ، والذي قد يخرج من التجربة والنبرة الفرديّة للتعامل مع جذور القمع الجنسيّ والجندريّ. لم يكن القصد من النبرة الفرديّة في "غنّي" التغاضي عن الحاجة للتغيّير الجذري، ولكنّها كانت الطريقة التي اختارها الشركاء للتعامل مع هذه القضايا.
فعلى سبيل المثال: أحد أهداف المشروع هو خلق مساحة آمنة تشعر فيها أطياف مجتمعيّة مختلفة بأمان كافٍ للتعبير الذاتي والتواصل الثقافي، إن كان مع الموسيقى، اللغة العربيّة أو حتى مع المجتمع. نحن نؤمن أن المشروع من هذه الناحية حقق نجاحاً. فهذا الحدث كان الأول من نوعه الذي يهدف لتحدّي ظاهرة تقوقع المثليين بفقاعات محصورة من ناحية، ونظرة المجتمع للمثليين كمجموعة محكمة الانعزال والرافضة للاختلاط من الناحية الأخرى. إحدى اللحظات الجميلة خلال العرض كانت مشاهدة الجمهور المتنوّع الذي حضر، وانسجام الأطياف المختلفة والاكتشاف المشترك للديناميكيّة الجديدة التي تتبلور من خلال الحدث. هدفنا الأساسي هو فتح نقاش وحوار حول الجنسانيّة، والميول الجنسيّة، الجندر والقمع الجنسيّ.
من الممكن إلصاق شعار "التغيير المجتمعي الجذري" على المشروع، ولكنّنا نرى أن هذا الإلصاق يحمّل المشروع أكثر بكثير من طاقته: فهو خطوة أولى لفتح مساحات تغيير، ليس فقط على نطاق التعدّديّة الجنسيّة، بل أيضاً نأمل بأن يكون خطوةً تبعث الحماس للتغييرات على كافة الأطر الاجتماعيّة. لهذا من الصعب التطلّع إلى تحويل المشروع لحركة احتجاجيّة شاملة، بل رؤيتنا أو أملنا هو أن يكون جزءاً من حركة احتجاجيّة شاملة مستقبليّة تضمّ كافة أطياف المجتمع، وليس فقط فئة معيّنة كفئة الهدف للمشروع.
نحن متشوّقون لرؤية إنجازات "غنّي عن التعريف"، واستكشاف مدى وصول المبادرة إلى فئات جديدة. ولكنا أيضاً نرى أن عملنا اليوم وخطواتنا القادمة يجب أن تتمحور حول استنفاذ قدراتها. ننتظر بتشوّق إلى إقامة جلسات نقاش وتقييم لبناء تصوّرات للعمل المستقبليّ مع ناشطات وناشطين وكل من يودّ المساهمة في المشروع، لكنّنا نرى أنّه من المهم عدم استباق الأحداث وبناء الخطوات المستقبلة على أساس تقييم الخطوة الأولى، وخاصة على آراء ونقد وشغف العديد من الناشطين الذين قاموا بالعمل، وآخرين من الذين انضمّوا إلينا بعد تواصلهم مع "غنّي" في صورتها الاخيرة.
---------------
لرابط المقال في موقع معازف