نُشرت هذه المادة سابقًا على مدونة أحمد البيقاوي. لقراءة المادّة من مصدرها الأصلي انقروا هنا.
كيف يمكن للشرطة الفلسطينية ان تكسر تعريفها لنفسها، ورؤيتها في “حفظ أمن الشعب والحظي بثقته”، ورسالتها في “السعي بقوة القانون لتوفير الأمن والأمان للمجتمع بمهنية وتميز وصون حقوق الإنسان”؟، كيف يمكنها كسر كل ذلك؟
ببساطة، ببيان واحد!
لقد تكسرت صور المثليين التقليدية عندي على مدار السنين الأخيرة بعد قليل من التعامل الكافي مع بعضهم لاكتشاف أنهم لا يختلفون عنك، ومع ذلك بقيت لدي رفاهية الشعور أن لا حاجة للتفكير في كل ذلك، ولا يعنيني كل جدل تفصيلي حولها، حتى جاء خبر طعن شاب من بلدة طمرة في الداخل المحتل لأخيه أمام ملجأ هرب إليه في يافا.
ولدت هذه الحادثة لدي الشعور بالمسؤولية، ودفعتني للبحث في فهم أسبابها، ولكن لم يمر الوقت الكافي لاستيعاب أية أسباب قد تُحرك أخًا لقتل أخيه، سوى التحريض والمزيد من التحريض والسكوت عن التحريض، ليأتي بيان الشرطة الفلسطينية ويفتح المزيد منها، بل ويعطي الشرعية والدعم في المجال العام للتصريح علانية بنوايا القتل والطعن والحرق والضرب بالنار… الخ.
لم يأتِ بيان الشرطة الفلسطينية بعد شكوى رسمية أو حادثة كبرى كان لا بد من الارتجال العاجل للتعامل معها، بل جاء ليصعد حملات التهديد والتحريض المحدودة التي بدأت قبل أيام من نشر بيانه من قبل أفراد وجماعات ضد آخرين، وبدل أن يحاول ضبط المحرضين والمهددين ويلعب الدور المنوط به كسلطة ناظمة لعلاقة الأفراد ببعضها، استخدم واستند على مجرد لغة (لا قانون)، تدعم وتعزز التحريض، وتفتح كل الأبواب لكسر “السلم الأهلي” الذي ادعى في بيانه حمايته.
اجتهدت الشرطة في كتابة سطور بيانها، ونشرته دون اجتهاد يليق بمستوى أضعف جهاز شرطة حول العالم، دوره التحقق من قضية ما وكافة تفاصيلها قبل التصريح واتخاذ موقف منها او إجراء ضدها، حيث قدم مبررًا مغلوطًا في بيانه يدور حول منع فعالية “لجمعية القوس للتعدّديّة الجنسيّة والجندريّة في المجتمع الفلسطينيّ”، قال أنها ستعقد في نابلس، وقد اختلط عليه أن فعالية نابلس قد تمت ونجحت، والفعالية المعلن عنها نهاية الشهر لم يحدد عنوانها بعد!
لوهلة، ظننت أنها لغة قانونية تستخدم حجة عدم وجود تصريح للفعالية بهدف منعها، ولكن للأسف، الشرطة بالفعل لا تعلم ولم تجتهد حتى لتعلم وتتأكد من التفاصيل اللازمة لصياغة موقف وبيان محسوب عليها.
استغل البيان التعامل الإشكالي للمجتمع الفلسطيني مع قضايا المثلية الجنسية، وسعى لتحويل كل فرد في المجتمع إلى مخبِر. الأمر الذي اعتبره المشاركون في موجة التحريض حصانة لهم ضد المحاسبة على تهم التحريض، ومنحهم الشرعية للتهديد بالحرق والطخ والإعدام والملاحقة، وهو ما انتشر صراحة على منصات التواصل الاجتماعي، وتعرض له أفراد تلقوا تهديدات مباشرة من مجهولين وأسماء معلنة.
كسرت الشرطة الفلسطينية كل “سلم أهلي” ممكن، ولم تحاول حتى اللحظة إدارة الموقف ولو بنشر بيان أو موقف قصير قد يخفف من حدة النار التي أشعلتها، ولتستعيد الثقة التي فقدتها، وتعيد تقديم نفسها كملجأ آمن لمن يتعرض اليوم لتهديد قابل جداً للتنفيذ وقريب من التحقق.
المثليون في سياق الاحتلال
بالنظر للسياق الفلسطيني، وسياق الاحتلال الذي يفرض علينا دائمًا أبعادًا أمنية وسياسية تعقد التعاطي مع أي قضية اجتماعية (مثل قضايا شرف العائلة والمثلية الجنسية)، سنجد أن ذلك المحقق في المخابرات الإسرائيلية المتخصص بالإسقاطات يشعر بسعادة غامرة، فقد قويت ورقة من أوراق إسقاطاته للشباب والشابات. إذ أصبح بإمكانه اليوم استدعاء أي شخص يريد تصفيته او تقييده سياسياً او تجنيده لصالحه، وابتزازه بجهد أقل، وبصورة ملفقة حتى. كما أن هنالك ممن استنفرتهم الشرطة من المجتمع الفلسطيني، لينفذ جريمته ضد أي فلسطيني، وبتفهم عالٍ منها، وربما بتقدير أيضًا.
كما أن ملاجئ تل أبيب للمثليين التي حاربت المؤسسات الفلسطينية اللجوء إليها، ونجحت بتجنبها إلى حد كبير بعد توفير بدائل وطنية، قد تعود لتكون الضامن الأكبر للأمان الفردي للمثليين، ويعود التعويل على الشرطة الإسرائيلية لحماية الأفراد بدل المغامرة بالتعويل على الشرطة الفلسطينية.
ومن منظور أوسع، يأتي البيان في الوقت الذي يدور فيه نقاش بشكل مستمر في مجتمعات المثليين حول العالم حول العلاقة مع الاحتلال الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، وفي ظل وجود معركة مستمرة بين النشطاء الفلسطينيين ونشطاء الاحتلال لكسب تضامن هذه الفئة مع القضية الفلسطينية كأفراد وجماعات.
لا يتهاون الاحتلال في محاربة كل فرص النشطاء الفلسطينيين في كسب تأييد المجتمعات والفئات المختلفة، من خلال تصوير المجتمع الفلسطيني على أنه مجتمع قاتل وقمعي من جهة، ومن جهة أخرى يسعى بشكل حثيث لتقديم تل أبيب ودولة الاحتلال كنموذج “الحاضنة الأكبر” في الشرق الأوسط، من خلال استضافة مسيرة الفخر كل عام، والتي تساعدها في عملية “الغسيل الوردي” للتغطية على الاحتلال وجرائمه وعنصريته، بل وقلب الطاولة لكسب مزيد من الدعم.
يتخذ الاحتلال هنا مقامرة ويحارب لأجل ذلك الفئات المحافظة والمتدينة من المجتمع الإسرائيلي، التي تعد إحدى أعمدة المنظومة السياسية الإسرائيلية.
في المقابل، نجح النشطاء والمؤسسات الفلسطينية في تحقيق اختراق في الدعاية الإسرائيلية هذه، فتمكنت من عرقلة “الغسيل الوردي”، وتعطيل مشاركات في “مسيرة الفخر” وفضح الاحتلال، بل وفرض معادلة واضحة على مستوى عالمي. تقول المعادلة: لا يمكن أن تكون ناشطًا من أجل السود او المرأة أو المثليين وأن تدعم الاحتلال في نفس الوقت. نجحت المؤسسات الفلسطينية في ذلك وباتت اليوم تضع الوقوف مع القضية الفلسطينية مؤشرًا على جدية أي نشاط آخر.
لكن لدى الاحتلال اليوم ورقة هجوم رسمية جديدة، وعلى الناشط الفلسطيني الانشغال في تفسيرها.
ازدواجية وانتقائية السلطة الفلسطينية
تعي مؤسسات السلطة الفلسطينية حساسية مثل هذه القضايا في عملها الدبلوماسي، وأثر أي لبس قد يؤخذ عليها، لذلك تجدها تحتفل وتتفاخر بكل اللغات إلا العربية بعد توقيع كل اتفاقية فيها مواقف واضحة من هكذا قضايا، وتحاول في نفس الوقت بازدواجية عالية المحافظة على مغازلة وخداع المجتمع، مقدمة نفسها الوصي الأخلاقي وحامية العادات والتقاليد، محاولة التقرب منه والحظي بشرعية باتت تفقدها في ميادين كثيرة، مثلها مثل الكثير من الأنظمة الحاكمة في محيطنا، ولكنها سرعان ما تتراجع، إن كان سيحرجها ويفضح تناقضها، مثلما تم سحب البيان المذكور اليوم الاثنين من موقع الشرطة الفلسطيني الرسمي، وتبرير الموضوع لبعض المحامين والمتابعين على أنه اجتهاد شخصي من قبل الناطق باسم الشرطة، كل ذلك بهدوء لا يليق بالضجة التي تسببت بها، ودون إعلان تراجع أو اعتذار قد يُفقدها ما اكتسبته من شرعية في المجتمع الفلسطيني.
لم يكن بيان الشرطة جادًا، لا على المستوى العملي ولا النظري، ومن السخيف جدًا الحديث عن منع فعالية واحدة في الوقت الذي تستطيع فيه حظر عمل مؤسسة بالكامل، ومن الأسخف هو تقديم نفسها على أنها صوت الشعب بانتقائيتها المكشوفة، كانتقائيتها في تنفيذ منع إطلاق النار في الهواء في الأعراس والمناسبات.
ولذلك، سيمر هذا البيان وسيستمر عمل المؤسسات، وسنرى أن كل ما حصل ليس أكثر من استعراض كاستعراض إغلاق بعض المقاهي في كل رمضان ليوم أو يومين، واعتقال بعض الأفراد سيئة الحظ لساعة أو ساعتين، ولكن هذه المرة سيبقى أثر التحريض والتهديد والوعيد ساريًا مشكلًا الخطر الحقيقي على “السلم الأهلي”، والذي لا تتحمل مسؤوليته اليوم إلا الشرطة الفلسطينية.