نُشرت هذه المادة سابقًا على موقع عرب 48، لقراءة المادّة من مصدرها الأصلي انقروا هنا.
كلّ مرّة، من جديد، يحتدم "النقاش" أو "حوار الطرشان" بنظر كثيرين، حول موضوع التعددية الجنسية والجندريّة في مواقع التواصل الاجتماعي، ووصل إلى ذروته في "قضيّة طحينة الأرز"، حين قررت صاحبة الشركة، جوليا زهر، التبرع لـ"الأغودا" (جمعيّة المثليين في إسرائيل) "لإقامة خط دافئ" للمثليين والمثليّات العرب.
توالت في السنة الأخيرة الأحداث التي جعلت قضايا التعددية الجنسية والجندرية في مركز الأضواء المجتمعية، ما جعلها قضيّة رأي عام. فمن جهة، يبدو الموضوع مرغوبًا ومطلوبًا، وهذا يدلّ على أنه لا يمكننا إنكار ومحو الأشخاص الذين يعيشون في بيوتنا وحارتنا ومدننا وقرانا عن الوجود؛ ومن جهة ثانية، حجم العنف والتنمر في تناول قضية التعددية الجنسية والجندرية غير المسبوق.
بدأت هذه الأحداث بجريمةطعن مراهق من طمرة على خلفية ميوله الجنسية، تلته المظاهرة الأولى غير المسبوقةفي ساحة الأسير في حيفاتنديدا بالإجحاف والعنف الذي يتعرض له الأشخاص ذوو الميول الجنسية والجندرية المختلفة؛ بعدها مباشرةأصدرت الشرطة الفلسطينية بيانا يمنع نشاط جمعية "القوس"من مزاولة نشاطها في الضفة الغربية، وحرّضت ضد المؤسسة والعاملين فيها، بل تجاوزت ذلك وطالبت الجمهور الفلسطيني بالإبلاغ عن أي نشاط وعن الفاعلين في المؤسسة لاعتقالهم. ثمّالموت التراجيدي للراقص والفنان أيمن صفيةوما دار في جنازته، التي تحولت إلى مهرجان داعمٍ للحريّات من قبل معارفه وغيرهم من المشاركين بالجنازة، وما رافقها من تنمّر بعد موته عبر شبكات التواصل الاجتماعي، فصفحته الشخصية لم تخلُ من المسبات القذرة حول هويته الجنسية؛ ثم انتحار الناشطة المصرية الكويرية سارة حجازي في كندا بعد معاناتها مع النظام المصري واعتقالها والتنمر والعنف الذي تعرضت له وهجرتها القسرية إلى كندا؛ وبعد ذلك "قضيّة طحينة الأرز"، التي كانت من أكثر القضايا الساخنة في "النقاش"، ربما لدخول رأس المال في النقاش. وأخيرًا موضوع تصويت القائمة المشتركة على قانون منع العلاجات القسرية للمثليين، بين مؤيّد ومعارض وممتنع.
هذه الأحداث، بالإضافة إلى حجم العنف وخطاب التحريض والكراهية، دفعت جمعية "القوس للتعددية الجنسية والجندرية" إلى الدعوة لوقفة احتجاجية يوم غدٍ، الأربعاء، في ساحة الأسير في حيفا في تمام الساعة السادسة مساء تحت عنوان "صرخة كويرية للحرية".
ليس نقاشًا
ما حدث في وسائل التواصل الاجتماعي لم يكن نقاشًا، بل هجوما حادًا وعنيفا بين مؤيّدي الحريّات الفردية وبين من اعتبروا المثلية شذوذًا يجب استئصاله ومعالجة الأشخاص "الذين يعانون منه". من وقع ضحية هذه الحرب الكلامية الشرسة هم أصحاب الشأن الذين يعيشون توجهات جنسية وجندرية مختلفة، فحجم التنمر والتحريض ضدهم كان مخيفًا. وللأسف، حتى فرصة أن نسمع صوتهم خلال هذه الهجمات المتكرّرة لم تكن واردة.
"النّقاش"، أو الهجوم الحادّ، دخل في حياة المثليين والمثليّات الشخصيّة، تطرّق إليها، وسَمَحَ ومَنَعَ وبنى فرضيّات عزّزها بادعاءات ونظريات مؤامرة. لكنّ صوت المثليين والمثليّات أنفسهم بقي مغيّبًا، بل وصل الحال إلى تسميتهم بـ"مجتمع الميم" (في إشارة إلى المثليين والمثليات والمتحولين والمتحولات ومزدوجي ومزدوجات الميول الجنسيّة)، وكأن التوجه الجنسي والجندري أصبح هوية سياسية واجتماعية، وكأن أصحابه ليسوا جزءًا لا يتجزأ من مجتمعنا الفلسطيني، فساهم "النقاش" بشكل غير واع في إقصائهم ونبذهم من جديد، ما زاد من تقسيم مجتمعنا الفلسطيني في الداخل، وزدنا عليه مجموعةً جديدةً من التشظّيات الداخلية.
في هذا التقرير سنسلّط الضوء على التطورات الاجتماعية والتغيرات المجتمعية التي أدت بنا إلى هذا الحال. كيف أصبحت قضية الجندرية والميول الجنسية قضية رأي عام أشغلت المجتمع أسابيع متتالية؟
تقول الباحثة والناشطةهمت زعبيلـ"عرب ٤٨" إنّ النقاشات التي نشهدها مهمّة، "ولها دلالات إيجابية في وسط هذا المناخ القاتم. مجهود الناشطات النسويات والجمعيات النسوية بالإضافة إلى الجمعيات المعنية بالحقوق الجنسية والحريات الجنسية وأيضا الناشطين والناشطات في مجال الحقوق الجنسية أثمر. صحيح أنّنا لا نشهد التغيير المجتمعي المنشود، ولكننا نشهد حراكًا لم يعد في الهامش وبدأ ’يخترق’ الخطاب السائد - المحافظ. وهذا ليس بجديد. شاهدنا كيف لم يعد بإمكان الأحزاب السّياسيّة تجاهل المطالب النسوية حتى ولو شكليًا. حتّى السلطات المحلية أدركت أن هناك مطلبا اجتماعيا لتمثيل نسائي ولم يعد بمقدورها تجاهله".
وتضيف زعبي "هذه العملية التراكمية تقابلها مسارات تراكمية أخرى في المجتمع. التفاعل بينها يزيد من التنافر. وهذا غير فريد وليس خاصًا بالمجتمع الفلسطيني. فنحن نرى هذه الظاهرة في العالم العربي وأيضا في العالم بشكل عام".
وبخصوص التّيار الرافض للمثليّة، تقول زعبي إنّه "جزء من المجتمع ويعارض أي تغيير داخل المجتمع من خلال خطاب ’العودة’ أو الحفاظ على ’الأصالة’. بتقديري يزيد التنافر مؤخرًا في حالة الفلسطينيين في إسرائيل، وتحديدًا في قضية الحريّة الفرديّة والجنسية على وجه التحديد لعدة أسباب؛ على رأسها المطالبة بالتوافق بين الحقوق والحريات الفردية مع الحقوق الجماعية.بمعنى لا نطالب بممارسة حقوقنا وحرياتنا الفردية فقط، إنما نطالب في ممارستها كفلسطينيين".
بدورها، تقول مديرة جمعية "القوس"،حنين معيكي، لـ"عرب ٤٨" إنّ"للقوس دورًا فعّالا، بكل تواضع، في خلق النقاش في السنة الأخيرة. عملنا في الشارع بدايةً من خلال حملة ’ما اختلفناش’ عام 2017. كانت المرة الأولى التي تنشر فيها القوس ثلاثة فيديوهات يظهر فيها نساء ورجال يعيشون تجارب جندرية مختلفة. كان الهجوم غير مسبوق.كنا 15 ناشطا نعمل لوحدنا واليوم أصبحنا نحو مئة ناشط وناشطة، ونُجيب على كم هائل من التعنيف. هذه البداية التي من خلالها أدركنا أن علينا التواجد أكثر في الميدان، وقبل سنة ونصف دخلنا إلى 7 جامعات وقمنا بتوزيع منشورات تحوي خمس نقاط عن التعددية الجنسية والجندرية. حصلت حملة شرسة ضدّنا، أيضًا، في حينها. هناك استقطاب في النقاش، لكن هناك أشخاصا في المنتصف، متعطّ شين للمعلومات ولإبداء أفكارهم حول الموضوع. من جهة المجتمع قاسٍ، ومن جهة يريد التحدث بالموضوع في مواقع التواصل الاجتماعي. هذا تغيير إيجابي".
وترى الناشطة النسوية والسياسية،آية زيناتي، أنّ "مؤسساتنا النسوية والحَراكات أيضًا كان لها ظهور في الوقفة التي بادرت لها ’القوس’ ضد العنف الممارس على المثليات والمثليين. ولا أعرف إلى أيّ مدى استطعنا أن نوصل رسالتنا إلى المجتمع، لكن وصلنا اليوم إلى وضع بات فيه كل صوت مهمًا، كأفراد وكمؤسسات.هناك خطاب كراهية ضد المثليين والمثليات، خطاب خطير جدا وعنيف ومخيف، وإذا كانت النقاشات في السابق غير علنية، الآن لا نستطيع التهرب من النقاش، الموضوع واضح وظهر على السطح. من جهة هذا النقاش مهم، ومن جهة أخرى مخيف لأنه يحمل تحريضا وكراهية؛ بدءًا بوفاة أيمن صفية، وبعدها انتحار الناشطة المصرية سارة حجازي والحملة ضد شركة ’طحينة الأرز’، وتلاها التصويت على قانون منع العلاج القسري للمثليين. كل هذه الأزمات جاءت لصالح التعددية الجندرية والجنسية، وجعلت الموضوع غير قابل للإنكار، وعلينا أن نتداوله ونناقشه. هناك مسؤولية مجتمعية حول كيفيّة إجراء النقاش وكيفيّة أخذه إلى نقاش صحيّ أكثر، ونحاول أن نحمي المثليين والمثليات، لأن هناك، طوال الوقت، خوفًا من الاعتداء عليهم. على كل إنسان يحمل فكرا تحرّريًا أن يكون في الواجهة، هذه فرصة لجميع الحَراكات أن تكون في الواجهة وأن تطرح خطابها بشكل قوي وواضح، خصوصًا أنّنا لا نعول على الأحزاب في هذا الشأن. شاهدنا ما الذي حدث في الأسبوع الأخير في قضية التصويت بالكنيست، لذا يجب ألا نتوقع منها المزيد، لذلك علينا كأفراد تحررين وكمؤسسات وأطر العمل سويًا".
لم يعد النقاش يقتصر على شريحة مجتمعية من المثقفين، بل وصل مؤسساتٍ دينية ورجال دين وسياسيين وأحزابًا، منهم من هو ممتنع عن إبداء موقف أو رافض أو مؤيد، حتى أنّ مجلس الإفتاء عقد مؤتمرًا خصيصًا لهذه القضية.
موقف مجلس الإفتاء
عقد "المجلس الإسلامي للإفتاء في الداخل الفلسطيني"، ومقرّه أم الفحم، الخميس الماضي، "ندوة علميّة شرعيّة حول ظاهرة الشذوذ الجنسي وإسقاطاتها الاجتماعية والأخلاقية"، كما ورد في بيان المجلس.
وجاء في بيان المجلس برئاسة الشيخ مشهور فوّاز إن "أبرز نتائج وتوصيات ندوة المجلس الإسلامي للإفتاء حول ’الشذوذ الجنسي بين الحقيقة العلمية والمقاصد الشّرعية’: يعتبر التوقيع على منع معالجة الشذوذ الجنسي طريقًا التفافيًا لشرعنة الشذوذ الجنسي، والمؤلم أن يوقع على ذلك بعض النواب العرب... مجرّد التفريط بثوابتنا الدينية يعني التفريط بكل الثوابت الوطنية والأخلاقية والاجتماعية. الأصل في الإنسان الفطرة السّوية النبيلة، والشذوذ أمر عارض شاذ يعود في الغالب إلى الأسباب الآتية: أ. عدم الاستقرار الأسري والتوتر في العلاقة بين الطفل ووالده الذي من جنسه، كتوتر العلاقة بين الأب وابنه؛ ب. طرق التربية غير السليمة والتعرض للتنمر. ت. التعرض للاعتداء الجنسي في الصغر. ث. التوافق المجتمعي: أي إعطاء المجتمع الشرعية والغطاء للشذوذ هو عامل يزيد بقوة من انتشاره".
القمع المتراكم
توضح الاختصاصيّة النفسية والتربوية والباحثة في علم النفس المجتمعي،أسرار كياللـ"عرب ٤٨" أنّنا مجتمع "يعيش في ظروف قهر ممتدّة تحت استعمار وسياقات قهر وتعسف. هناك تراكم وابتلاع للقهر، وهو ليس لحظيًا، وهذا يعكس الطريقة التي تتكون فيها الآراء والمواقف بشكل عام، وخصوصًا القضايا التي تتطلب تحليلا وتوليفًا بين عدّة مركبات. الدكتور مصطفي حجازي، وهو باحث لبناني في علم النفس المجتمعي، تحدّث عن فرط المشاعر والعواطف بحكم القهر المذوّت، ما يصعّب على الإنسان التوليف والتفكير، فبهذه الطريقة يتصرف الإنسان بثنائيات، إما أبيض أو أسود. وفق علم النفس، يؤثّر الضغط العالي على التفكير المنطقي. نحن نتحدث عن مجتمع يقع لعقود طوال وبشكل يومي تحت الضغط وهو غير واع للضغط. هناك أنماط ضغط نعيها وأخرى لا نعيها، لكننا نعايشها طوال الوقت لكي نستطيع من تخفيف حدة وطأة الضغط، فنقوم بإنكار جزءٍ منها وننقلها إلى الآخرين. من آليات تخفيف الضغط الفردي أننا نعنّف الآخرين، وننقل غضبنا إلى شخص آخر؛ نستخدمها لأننا نشعر بالعجز تجاه عدة أمور؛ الأولى، الصدمة الكبيرة في عام 1948، وتلاها سلسلة مجازر ومن ثم اغتراب، وهو يعتبر عُنْفًا رمزيًا. إنّنا لا نشبه المؤسسة والمكان، نتحدث عن انتزاع، نحن لا نسيطر على ظرفنا أو مستقبلنا ولا على ماضينا ولا على أراضينا. كفرد، بإمكانك تحديد ماذا تريد أن تدرس وأين قبلتك، لكننا كمجتمع نفتقد هذا التخطيط والسيطرة على حاضرنا ومستقبلنا وواقعنا. هذا النزع ليس بوعينا وإدراكنا اليومي".
وتضيف كيال إنه "عندما نتعاطى مع أي مؤسسة لا تشبهنا فلا نعي كمّ التعذيب والاغتراب اللذين نَمْرّ بهما. هذا يولد فينا شعورًا بالعجز، ما يؤدي بالمجتمع إلى انكفاء لفترة معينة. نبتلع القهر ونذوّت فكرة أن المستعمر أفضل منّا ومتحضر أكثر منا، ونحن سيّئون وعاجزون، لكن بمرحلة ما لا نستطيع أن ننكفئ للأبد، فتحصل فورات معينة بها نفرغ غضبنا للخارج، مرحلة ما قبل المواجهة. ولتبسيط الأمور، أعطي مثالا بسيطًا: أنا غاضبة من مديري في العمل ولا أستطيع مواجهته لأنه أقوى مني، وأخاف أن أفصل من عملي ويحرمني من لقمة عيشي، ولا توجد العديد من الفرص أمامي، فأقوم بركل الباب لأنه من الأسهل أن أركل الباب بدل أن أواجه المدير.هذه هي المرحلة الثانية وتسمى بالعنف الاضطهادي، نقتل بعضنا البعض لنقاش حول موقف سيارة؛ نعنف المختلف عنا والذي لا يشبهنا؛ نحن الآن في المرحلة الثانية لعدم قدرتنا على تشكيل موقف بطريقة صحية".
وتشدد كيال على أن "هذا لا يقتصر علينا، وإنما على جميع الشعوب التي مرت بهدر، والهدر أن لا قيمة للإنسان؛ عندما تُهدَر إرادتك ومواردك تُهدَر سيطرتك على ظرفك، فكيف بإمكانك أن تصدر موقفًا بقضية ما وأنت بلا آلية لصياغة موقف وقدرة على التحليل والتوليف".
ويؤكد الإعلامي والمستشار النفسي،مصطفى شلاعطة، حديث كيال ويضيف أنّ"وسائل التواصل الاجتماعي لا تتعاطى مع المثلية فقط بهذه الشراسة والعنف، صحيح أن موضوع المثلية فيه تهديد للمنظومات الاجتماعية التقليدية، فحدته أكبر. الخطاب في وسائل التواصل الاجتماعي عنيف وحاد نتيجة الواقع المجتمعي الحاد والعنيف، ولكن أيضًا في قضايا أخرى مثل النقاش حول الموقف مما يحصل في سورية، إذ وصل النقاش لدرجة التكفير والتخوين؛ وأيضًا في الانتخابات يكون التعامل حادًا وتكفيريًا وتخوينيًا. آلية العنف أصبحت المصرف لكل القمع والإحباط المحتقن، الذي عندما يخرج، يخرج بشكل جارف".
ويشير شلاعطة إلى "عامل آخر، وهو أنك تجلس خلف جهاز وتكتب من بعيد من وراء شاشة. أولئك الأشخاص لا يعون أثر ذلك. نقطة مهمة أخرى وهي كثرة الشبكات الاجتماعية التي أدت إلى تنافس أكبر على إسماع الصوت وجمع إشارات الإعجاب (لايكات)، فكلما كانت أكثر حدة وعنفا وتطرّفا كلما لاقت استحسانًا، كلما كنت عدائيًا ومؤذيًا أكثر، كلما كثر ’السحّيجة’ حولك، وهذا مغرٍ جدًا. الاهتمام الذي يحظون به هو المحفّز. الكتابات في شبكات التواصل ليست عميقة وليست نقاشًا فكريًا، إذ إن النقاشات الفكرية الطويلة لا يقرأها معظم الناس، لذلك يلجأ كثيرون إلى الشعاراتية والسطحية، وكأنها هتافات".
غياب المدنية
تربط همت زعبي بين النقاش العنيف في شبكات التواصل وبين غياب المدينة الفلسطينية، إذ ترى دورًا فعّالا لذلك نتيجة الاستعمار الإسرائيلي، وتقول إنه "من دون شك، غياب المدينة هدم وشوه المسار المدني الذي كان طور التطوير قبل النكبة، وساهم في بناء تصور معين عن المجتمع الفلسطيني كمجتمع ’من دون مدينة’. ما ساهم في بناء اعتقاد بأن أي ظاهرة ’جديدة’ هي ظاهرة دخيلة على المجتمع وليست نتاج مسار تفاعلي مع ظروف مادية سياسية اجتماعية. يجري التعامل مع المجتمع على أنه جامد غير متغير، وهذا موقف ينزع عنا صفة المجتمع، ذلك الذي يتغير ويتفاعل ولا يبقى ثابتا، مثل أي مجتمع آخر".
وفي السياق ذاته، تضيف زعبي أنّ المساحات المدنية التي اختلقها أو نزعها الفلسطينيون في المدن الفلسطينية التاريخية، تلك التي هودت مثل يافا وحيفا، أو تلك التي لم تهود مثل الناصرة، تلعب دورًا في هذا الموضوع، "نجد أنّ الحياة في مساحات مدنية تبنى فيها العلاقات الاجتماعية بين الأفراد على أساس ’المصلحة’ وليس على أساس العائلية وعلاقات اجتماعية أولية، تساهم في هذه التحولات. جزء من هذه التحولات هو التوقّع بأن تحظى بتمثيل في المؤسسات السياسية والاجتماعية الرسمية، أو محاسبتها والانسلاخ عنها في حال لم تقم بذلك".
جمعية القوس وأزمة المثليين
أسست جمعية القوس قبل 11 عامًا خطّ إصغاء ودعم هاتفي، تقول معيكي إنّ الخطّ "يعمل من منطق دعم الأقران. القوس ليست مؤسسة خدمات، لكن وجدنا حاجة ماسة لإقامة الخط لأن هناك العديد من الأشخاص الذين همّ بحاجة ماسة لآذان مصغية، ويريدون التحدث مع شخص يشبههم ومر بتجربة مماثلة ومعلومات. لقد قمنا بتأهيل العشرات من المتطوعين والمتطوعات على الدعم، وهو أساسًا إصغاء وتقديم معلومات وليس خط طوارئ.المثير في الموضوع، أنه خلال 11 عامًا من النشاط، تبيّن أن 95٪ من المتصلين مشكلتهم الأساسية هي العائلة والمجتمع، ولا يعانون من مشكلة مع هويتهم الجندرية والجنسية. سمعنا تكرارًا لجمل مثل ’إذا أمي تمام مع الموضوع أنا تمام’ أو ’إذا المجتمع بيحل عني أنا تمام’. تكرار هذه الجمل هو بمثابة مرآة لأزمة المثليين. في السنة الأولى لم نتلق توجها واحدا، وفي العامين 2017 - 2018 تعاملنا مع 300 توجه في كل عام، وفي عام 2019 تلقينا 520 توجها للخط، وبحسب إحصائيات نصف الّسنة الحالية تجاوزنا 500 توجه، وبعد ’حرب الطحينة’ وخلال يوم واحد تلقينا 30 توجهًا".
هل دور العائلة أكبر من دور المجتمع في هذا الشأن؟
معيكي: لا... هناك دمج للإثنين. عاطفيًا دور الأهل أكبر؛ فعند الأهل مفتاح تحرير أولادهم وما زال أمامنا الكثير من العمل، لكننا بدأنا بقطف الثمار خلال الوقفة التي نظمناها العام المنصرم، وشاركت فيها عائلات لشباب ونساء مثليين ومثليات وأهال لناشطين، لم نستطع أن نتخيل ذلك قبل 10 سنوات".
هل دعم المجتمع للتعددية الجنسية والجندرية حقيقي؟
معيكي: هناك عدّة جوانب مركبة؛ هناك مجهود للحركات الكويرية والنسوية التي تتصدر الواجهة وتستفزّ المجتمع بشكل إستراتيجي من خلال خروجها للشارع، وتصدر معرفة وإنتاجات ثقافية غير سهلة للفكر المجتمعي السائد. تحريك المشاعر، حتّى لو بحدّة، هو الطريق الوحيد أمامنا لكي نستطيع أن نُحدث التغيير. المجتمع الفلسطيني يحمل العديد من الأفكار، لكن لديه رغبة جارفة للحديث عن الموضوع في مواقع التواصل الاجتماعي. في التدريبات التي ننظمها هناك تغيير كبير نلحظه لدى الكثير من الفئات في المجتمع حول مواقفها وعنفها وكيف تتعامل مع الموضوع. تلقينا أسئلة من أشخاص إذا كانت لابننا ميول جنسية مختلفة كيف سنتعامل معه؛ لكن على المستوى الاجتماعي والسياسي الأوسع، الثنائيات التي نراها في الإعلام والحرب الشعواء في شبكات التواصل، تجعلنا نشعر أن هناك استخدامًا لقضايانا. سواءً كان ذلك من قبل السلطة الفلسطينية، لكي تثبت أنّها حامية التقاليد وبودها تنظيف المجتمع من "الشواذ"؛ وهناك من يصفقون للسلطة وهناك معارضون للسلطة فيدعموننا. لا ندّعي أن الدعم دائما حقيقيّ.
في "حرب الطحينة" شاهدنا ذلك من خلال الإسلامين والشيوعيين واللبراليين والعنيفين. ننسى أن هناك أشخاصا يتأذون من هذا الكلام، لكن أحزابا سياسية وشخصيات مؤثرة تستخدم النقاش لمصالها الشخصية. الدوافع والمصالح غير بريئة.
وفي هذا السّياق، يقول المركّز الإعلامي في جمعيّة "القوس"،عمر الخطيب، إنّ"قضايا التعددية الجنسية والجندرية تتحول من كونها حوارات ونقاشات حقيقيّة وبنّاءة تسعى في الأساس إلى أن يتقدّم المجتمع ويصبح أكثر احتواءً وأقلّ عنفًا، إلى بطاقة سياسيّة تستخدمها أطراف أو جهات سياسيّة واجتماعيّة مختلفة ومؤسّسات مجتمع مدني، وتتحوّل إلى سلاح يعزّز من اصطفافات وأقطاب سياسيّة واجتماعيّة حادّة. في المحصلّة النّهائيّة، هذه المعادلة هي عنف إضافي علينا كأشخاص نعيش توجهات جنسية وجندرية مختلفة".
وعلى المستوى الثقافي، يقول الخطيب "هناك رواية وصور أن الداعمين هم التقدميّون ونقيض التخلف والهوموفوبيا، وفي المقابل هناك الجهة الأخرى ’المتخلّفة والعنيفة’، الموضوع ليس بالفعل حوارًا. التضامن يفقد قيمته الحقيقية، وإعادة إنتاج ثنائيات حادة ليست حقيقية ولا تفيد قضايانا، إنّما تموضع الأشخاص والمؤسسات في مكانة اجتماعية معينة". ويوضح أنّ "حرب الطحينة" كانت مثالا حيًّا على ذلك النقاش "الذي مع والذي ضد، ولم يكن عن حقوقنا. يتم محونا تماما حتى حين نتفوه بأيّة كلمة يحاسبونا ويرسموا لنا أولويات".
وحول التعاطي الإعلامي، يقول الخطيب إنه "تعلّمنا في السّنة الأخيرة أن هناك تحوّلات في الإعلام. قبل 3 سنوات كان هناك تجاهل تامّ في الإعلام لقضايانا، كانت هامشيّة وغير مهمّة. بينما في آخر عام ونصف العام طرأ تحوّل لأنّ الموضوع أصبح قضيّة رأي عام تخصّ الجميع. ومع ذلك، ما زالت تشوب هذا التحوّل ترسّبات. والتغطية الإعلاميّة تتم فقط في الأزمات أو تكون صفراء. ولا يأبه الإعلام إذا كانت التغطية تعزّز العنف ضد الأشخاص الذين يعيشون مثل هذه التجارب. الإعلام هو انعكاس للمجتمع وخطاباته أمامنا الكثير من التحديات".
وعودة إلى المستشار النفسي شلاعطة، إذ قال إن موضوع المثليين كان "حدث العام إعلاميًا، وكان التوجّه الإعلامي مختلفًا في التعاطي مع المثليين. كان هناك تعاطف ودعم، لأنّ القضيّة تطوّرت إلى عنف جسدي وعيني ضدّ قاصر. نشهد منذ حادثة الطّ عن حضورًا أكبر لتداول حقوق المثليين في الإعلام. يجب الفصل بين ما ينشر في الإعلام وبين ما ينشر في شبكات التواصل الاجتماعي"؛ ويرى أن النقاش في مواقع التواصل "حرب شعواء دون حسيب أو رقيب، لا مساءلة ولا محاسبة عمّا يكتب، بينما في الإعلام التقليدي هناك مساءلة وأخلاقيّات صحافيّة. هناك قانون يحدّد طريقة التعامل وهناك ضوابط مهنية عامّة. لكنّ الإعلام، حتى اليوم، ما زال يتعامل بحذر حتى لو كان داعمًا ومتعاطفًا باختيار المصطلحات وحتى تغطية الموضوع ما زالت غير كافية".
ويضيف شلاعطة أنّه في كثير من المرّات يحاول الإعلام ألّا يغطي الموضوع لكي لا يدخل في حرب مع أشخاص ذوي نفوذ وصوت مرتفع وعدائي فيتجاهل قضايا المثليين. نلاحظ أيضًا تحسّنا في استخدام المصطلحات، فاليوم صار يُستخدم مصطلح مثليين. "التّعاطي مع الموضوع أصبح ينمّ عن معرفة ووعي أكثر، ناهيك عن امتناع شخصيات قيادية عن التحدّث إلى الإعلام في الموضوع، لكي لا تخسر تأييد وتدخل في صراعات مع أطياف مختلفة".
ويخلص شلاعطة إلى أنّ "المرحلة الأولى في طرح الموضوع هي المرحلة الأصعب. لكن كلّما تكرّرت المرحلة يسهل التعاطي معها. هناك دورٌ مهم للتنظيمات التي تعنى بالموضوع، وخصوصًا القوس، الذي عملوا اجتماعيًا بشكل رائع. هناك عمل تراكمي نرى الآن نتائجه في الشارع. الطريق طويلة أمامنا لكن مقارنة أين نحن اليوم في التعاطي مع الموضوع وأين كنا قبل سنتين توضح التحول الكبير. التعامل مع القضايا النسوية في البداية أيضًا تعرض لهجمة شرسة، لأنه لامس أعصابًا مكشوفة تتقاطع مع عدم معرفة وجهل وتهديد توازن المبنى القائم".
التحديات أمام الحَراكات
ورغم التقدّم الملحوظ في نشر الوعي، وفق معيكي، إلا أنّ "التعنيف مستمر، مثلا شاب ’أنثوي’، يعنّف يوميًا من قبل والدته وهو ينزل الدرجات، عبر القول ’اجمد’، هذه ’التّراوما’ مستمرّة. من السهل أن يحتضنك الإسرائيلي ويقول لك مجتمعك متخلف وتصدّق ذلك من تجربتك. الفعل الأساسي ضد العنف المجتمعي والغسيل الوردي (ترويج إسرائيل لنفسها كأنها تحتوي وتدعم المثليين وتحديداً الفلسطينيين) هو وجودنا واستمراريتنا على الأرض. ومن المهمّ أن يفهم ابن طولكرم أو ترشيحا أنّ هناك جماعة مثلهم، هذه وظيفتنا. هدفنا أن نكون مؤسسة شعبية جماهيرية تصل إلى الناس وإلى الشباب الصغار. يجب على المؤسسات الحقوقية أن تتحرك وعلى الاختصاصيّين النفسين، أيضًا، أن يدفعوا الأهل إلى تحسين العلاقة مع أولادهم بدل تعنيفهم. لذلك، نرى دورنا في التثقيف. دخلنا إلى 10 مدارس بعد صعوبات هائلة من خلال المستشارة أو المدير بعد ملاحظة تنمّر في المدارس".
أمّا آية زيناتي فتقول إن "هناك الكثير من التحديات أمام المؤسسات والحراكات، لكن في ظلّ غياب القيادة وفي ظل غياب مشروع تحرّري كامل من المهم أن تأخذ هذه المؤسسات الدور اللازم وأن تجرَّ النقاش إلى مكان آخر وتعطي منصّات لجمعيّات ’القوس’ و’أصوات’ لطرح الخطاب بالشكل الصحيح، ومن المهمّ كذلك أنّ يكون تعامل كامل بين المؤسسات، ودعم كامل وواضح بين ’القوس’ و’أصوات’. هاتان الجمعيّتان مرّتا بحروبات ومعارك لوحدهما، من المهم الآن دعمهما والوقوف سويا وليس فقط ببيان، كان يجب أن يكون موقف واضح للمؤسسات خلال الأسبوع الأخير والأحداث المتتالية".
كيف سنحول الخطاب من خطاب عنيف إلى خطاب صحي؟
زيناتي: خطاب العنف والكراهية له قاعدة شرعية شعبية وشرعية مجتمعية. هذا الخطاب لم يقتصر فقط على المثليّين والمثليات، فرأيناه في موضوع حقوق النساء وقوانين الأحوال الشخصية. لم تكن هناك مواجهة مباشرة مع هذا الخطاب، لذلك كلّ مرة من جديد يحصل على شرعية أكبر ويصبح مخيفًا أكثر. علينا أن نوضح دورنا ووجودنا لهؤلاء الناس وأننا موجودون وموجودات لدعمهم، وأن نقول إنّ النقاش مهم وصحي ونفهم الاختلاف ونقبل التعددية. لا يلقى الموضوع قبولا عند أفراد، لكن ليس من حقهم التحريض وأن يفرضوا على الجميع أن يكونوا مثلهم. التعدّديّة جميلة دون الاعتداء على بعضنا البعض. علينا، في البداية، أن نخفّف من خطاب الكراهية، لأنّنا بشكل فعلي لم نتناقش في مثل هذه القضايا".
هل فعلا تمت مواجهة خطاب الكراهية أم بقينا في المدن وعمّمنا بيانات واستنكارات ونحن نقبع في برج عاجي يحمينا؟
زيناتي: صحيح، قدراتنا محدودة، لا يصح أن تلقى كل المسؤولية على كاهل النساء، هذا موضوع مجتمعي، هناك توقّعات من أطر ومؤسسات وهيئات مثل لجنة المتابعة، أين هي من هذا الخطاب؟ هناك خطاب دائم هو أنّ قضايا حقوق الإنسان والتحرر الاجتماعي ليست قضايا وطنية، لذلك خطابنا يجب أن يكون واضحًا: قضايانا كنساء وكمجموعات أخرى (مثل التعددية الجندرية والجنسية) هي جزء من التحرر الوطني نقطة بلا أي مساومة. لا يمكن أن نتحدّث عن تحرر وطني وأن نفصله عن التحرر السياسي، إذا أردنا الحديث عن قضايا تحرر وطني، هذه القضايا ضمن التحرر الوطني. أريد أن أشعر أنّني حرة في مجتمعي، وبالدرجة الأولى أريد أن أشعر بأنني آمنة، أستطيع أن أعبّر بشكل حر عن أفكاري. يجب أن نتحدّث عن خطاب الترهيب. يتم الاعتداء على أشخاص بحجة كذا وكذا. يجب على الأحزاب أن تأخذ موقفًا واضحًا وألا تتهرّب وأن تعتذر بعدها. محاسبة الأحزاب على المواقف واجبة، فنحن نتحدّث هنا حياة أشخاص. لا إمكانية للعودة إلى الوراء، الموضوع مطروح. حان الوقت أن نكون أو لا نكون.
زيادة الحضور في الإعلام يعني زيادة قوّة طرح هذه القضايا
تقول زعبي إنّ وسائل التواصل الاجتماعي سيف ذو حدين، فهي تساهم في تحديد قضايا الرّأي العام، "الشعور بأنّ لي صوتًا مسموعًا بإمكاني تدوينه على صفحتي أو الرد على نقاش عام لكسر احتكار مجموعة معينة النقاشَ وتحديدَ شكل المجتمع. مع هذا، مهم الإشارة إلى أنّ هذه المنصات في العديد من الحالات لا تساهم في تطوير نقاش بل احتدام الصدام".
وتضيف زعبي "يتراوح الفاعلون في هذا المشهد بأكمله، سواء أكانت أصوات القمع المجتمعي مثل بعض المؤسسات الدينيّة والتربويّة والأمنيّة والأشخاص المحرّضين والمهاجمين من المجتمع الفلسطيني نفسه، أو مؤسسات الاستعمار وسياساته في المحي والغسيل الوردي، والأهمّ في سياق التقرير هو الأشخاص الذين يعيشون توجهات جنسية وجندرية مختلفة ويسعون للتغيير المجتمعي حيالها، سواء كأفراد أو مجموعات على رأسها ’القوس للتعددية الجنسية والجندرية’"، فيضع التقرير "أصوات وتجارب الأشخاص الذين يعيشون توجهات جنسية وجندرية في الواجهة، على العكس من التوجهات التي تقصي وتمحي هذه التجارب، أو تستخدمها بطاقاتٍ سياسيةً سواء للعنف أو ’التضامن’، وبالتوازي يتطلع على التغييرات في المجتمع حول قضايا التعددية الجنسية والجندرية".